الحنين إلى الماضي دائما ما يأخذك إلى مناطق جميلة كالتي أخذنا إليها محمود أكبري في لوحاته الجميلة المتلألئة بعبق الماضي ونفحاته حيث نخيل القرية الباسق المتلاصق مع بعضه البعض في منظرٍ بريء جدا، وكأن كل شيء نبت على هواه وفي غفلة من الإنسان وتزويقاته المفتعلة، حيث تخرج الأرض زينتها فيستمتع الرائي بحلتها الخضراء البهية، وكأن كل شيء يسير كما تشتهي طبيعته البريئة.
الطبيعة تبادل الإنسان خضرتها
تأخذك الخضرة في اللوحة فتتعجب وتهمس، كم كان يلذّ لأكبري أن يجمع بين الطبيعة والإنسان والإنسان والطبيعة في صورة تبادلية وتقنية متعاكسة في لوحاته فيمازج بينهما بريشة واحدة وضربات تتيقّن أن وراءها الكثير من الإحساس فتتبصر ما يهولك، فمرة تبدو الطبيعة كأنها وجه من وجوه أجدادنا الناشئين في كنف النخلة وجوارها، وتحس أن تلك الألوان الخضراء في لوحاته تناديك بحنان أم رؤوم تحتضنك وتود لو تلقي بنفسك في دفئها وتتمنى أن ترتمي بين أحضانها، وفي مقابل ذلك ثمة رسوم متعددة لوجوه شيوخ أكل الزمان من قسماتهم، ونحتت الطبيعة غضونها العميقة في جباههم جاعلة من وجوههم لوحة تكاد تنطق بما عانوه من حياة فيها الكثير من التفاصيل، فكم أخذت منهم الطبيعة وكم أخذوا من الطبيعة، وما أشد التشابه بينهما.
لوحاته تختزن حكايات الزمن الأخضر
وكم تتأكد من صدق ما تذهب إليه من قراءة حين تجد الفنان محمود أكبري قد جمع في إحدى لوحاته وفي غيرها أيضا بين كل من الإنسان والنخلة والبحر، فتحس أن اللوحة تسرد عليك قصة تحن لسماعها فإذا بك تشاهدها على حين غرة منك فجأة كاملة حيث يكون البحر بجانب النخلة والرجال يصنعون أقفاص الصيد بما ينبئ عن حكاية أخرى آخذة في التّشكل، هي حكاية الإنسان والبحر وفي مقابلها الزروع الجميلة حيث النخيل الخضراء فتحس أن حكاية أخرى قائمة في الخلفية هي حكاية الإنسان والنخلة.
تفاصيل تغرق في التأويل
ما كان لهذه التفاصيل أن تروى إلا بيد فنان استطاعت يده أن تعبّر عما في قلبه، وأن يعبر هو عنا، ونحن نقرأ في لوحاته صدقه المباشر الذي لن ننكره عليه، ولن نبخسه حقه وبضاعته، فإن وراء هذه المباشرة ما وراءها، من المعنى المغرق في القدرة على بعث التآويل فينا في أية جهة تشاء ألوانه أن توجهنا فنرى أن وراء هذه المباشرة ما وراءها من أسرار ليس أولاها ولا آخرها الحنين إلى الماضي الجميل وحب الاحتفاظ به والإمساك ببقاياه مما علق في الذاكرة من صور.
اخضرار ينعش الروح
وتأخذك اللوحات إلى أجواء جميلة وظلال صباحية في أماكن كنت تعهدها في الخط الأخضر الذي تصر بقاياه على الثبات بينما يصر الإنسان هذا اليوم على إزالته وبناء العمارات محله وما كان من الفنان سوى أن أخذ على عاتقه أن يبقي لنا ولو شيئا بسيطا من هذه الأجواء الخضراء الرطبة الندية التي تكاد تأخذك إلى داخلها فتنتعش روحك وأنت تبصر اللوحة إثر اللوحة والأخضر يملأ المكان والأزرق السماوي يحوط سماء اللوحة في صفاء صباحي منعش بانتعاش الشروق الذي ترصده اللوحات.
وجوه نعرفها
ليس غريبا أن تشاهد الوجوه التي التقطتها روحه فصورها هو وريشته بألوانه الأخاذة فتدّعي أنك تعرف هذه الوجوه فتنسبها لجدك أو جدي أو ذلك الرجل الذي تعرفه وأعرفه في القرية من شدة التصاق رسومه التي صوّرها بالحياة اليومية وتمثيلها للمزارع الكادح في حقله وتمثيلها لمن نألفهم ونمر عليهم كل يوم فيبقون في ذاكرتنا حتى إذا ما أتى فنان كمحمود أكبري فعكس شيئا من ظلالهم في لوحاته قلنا إن هذا فلان، وذلك فلان تماما أنه ذلك الرجل الذي أعرفه وتعرفه ونعرفه جميعا أنا وأنت والفنان الذي استطاع بجدارة أن ينقل لنا ذلك الإحساس بروح فنية وحيوية ناضرة كنضارة ألوانه التي تنبض الحياة فيها، فتنطق بما تشاء فنبادلها ما نشاء.
وجوه كادحة ولحظات سانحة
وقد تتصفح الوجوه التي رصدتها ريشة محمود أكبري فترى أنه قد قنص في مجموعة من لوحاته صورة وجه الإنسان البحريني لحظة جده واجتهاده وهو يكدح في عمله، فترى الوجوه مكبة على عملها، فمرة يرصد تاجر اللؤلؤ وهو يتفحص لآلئه في إطراق تام يثمنها ويغلق حدقة عينيه عليها، ومرة تشهده يرصد الفلاح في حقله وقد استرق منه ابتسامة سانحة والخضرة تحوطه وهو يحصد ثمار حقله في فرح طافح على ملامحه المعجونة بلون تراب الأرض، وفي لوحة أخرى وهو يصنع أقفاصه للصيد لأخذ رزقه من البحر، أو يحمل على الحديد ليشكله في ورشة الحدادة يتأمل الدلال ويعيد طرقها بزخرفة جميلة، أو يقرأ القرآن مكبا بوجهه وعينيه للأسفل ويداه تمسك الكتاب في حنان وتتصفحه في خشوع، أو يتصفح أوراقه مذهولا وكأنه يقرأ ما بهته، كل هذه لحظات سانحة سريعة تمر في ثوانٍ معدودة أحيانا ولكنها تخلّف إحساسا عميقا يكاد لا تذهب عنا صورته، وكأن ريشة أكبري وهي تمسح ألوانها برفق في هذه اللوحات لتشيد بقدرات هذا الإنسان البحريني وقد استطاع أكبري حين قنص تلك اللحظات الشاردة أن يرصد كل ذلك الكدح والكد الجد والاجتهاد ويؤرخه في لوحاته فيؤكد مهارة هذا الإنسان مرة وكدحه مرة أخرى وأصالته في هذا التراب وامتلاءه به وجهوده لصنع يومه الجميل
العدد 2274 - الأربعاء 26 نوفمبر 2008م الموافق 27 ذي القعدة 1429هـ