يعتبر الالتزام والإرادة السياسية، والتعليم، ومشاركة المجتمع من الأمور والمقومات الأساسية لتحقيق مستقبل زاهر للمجتمعات الإنسانية. ويحظى التعليم خصوصا بأكبر قدر من الاهتمام في هذا المجال، إذ يوجد حاليا في المجتمع الدولي، وعلى أعلى المستويات، اقتناع تام بأن التعليم من العوامل المهمة والحيوية لمواجهة التحديات في رفع وتعزيز القيم والتصرفات وأسلوب الحياة المطلوبة لتحقيق مستقبل مستدام. ويعتبر التعليم من أكثر الوسائل فاعلية التي تمتلكها المجتمعات الإنسانية لمواجهة تحديات المستقبل، وهو الذي سيشكّل ويحدد مستقبلها، وسيعتمد تطور وتقدم هذه المجتمعات على العقول المتعلمة، والبحث العلمي، والابتكار والإبداع، والتأقلم مع المتغيرات العالمية والمحلية. وهذا لا يعني أن العقول المتعلمة والمواهب الإبداعية مطلوبة في المختبرات ومراكز البحوث فقط، وإنما كذلك في كل شكل من أشكال الحياة؛ ما يعني ضرورة الاهتمام بالتعليم في جميع شرائح المجتمع إذا أريد لهذا المجتمع أن ينمو ويتطور بشكل مستدام.
وبسبب هذه الأهمية للتعليم في عملية التنمية المستدامة، تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في اجتماعها السابع والخمسين في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2002 قرارا بإعلان العقد 2005-2014 «عقد التعليم من أجل التنمية المستدامة» (القرار 57/254). ولقد بني هذا القرار على الكثير من نتائج المؤتمرات العالمية والاجتماعات الدولية، بدءا من مؤتمر الأمم المتحدة عن البيئة والتنمية المنعقد في ريو دي جانيرو بالبرازيل في العام 1992 حتى قمة العالم عن التنمية المستدامة الذي عقد في جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا المنعقد في العام 2002 وخطة العمل التي نتجت منه التي أكدت أهمية التعليم لتحقيق التنمية المستدامة وأوصت بتبني العقد القادم عقدا للتعليم ليتم التركيز على هذا العنصر الرئيسي في عملية تنمية دول العالم والمساهمة في استدامتها.
وتم اختيار منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم (اليونسكو) لقيادة عملية الترويج وتنفيذ هذا القرار الأممي، وتكليفها بتقديم مقترح لخطة عمل بالتشاور مع المنظمات الدولية ذات العلاقة والحكومات والمنظمات غير الحكومية عن طرق وآليات تعزيز وتطوير التعليم من أجل التنمية المستدامة في استراتيجياتها وخططها التعليمية، كما دعا القرار الحكومات إلى القيام بالإجراءات المطلوبة لدمج عقد التعليم في استراتيجياتها وبرامجها التعليمية بحلول العام 2005 مع الأخذ بالاعتبار خطة العمل التي ستعدها «اليونسكو» لهذا الغرض.
وبناء على ذلك، قامت «اليونسكو» بالعمل على مواءمة وتعديل جميع برامجها لتوجه نحو تحقيق الأهداف المطلوبة من عقد التعليم من أجل التنمية المستدامة، والتي تم تحديدها في هدفين رئيسيين، الأول هو إتاحة الفرصة لتحسين وتعزيز التوجه نحو التنمية المستدامة من خلال جميع أشكال التعليم والوعي العام والتدريب، والهدف الثاني هو بيان أهمية الدور الذي يلعبه التعليم والتعلم في عملية التنمية المستدامة.
وأعدت «اليونسكو» خطة استراتيجية مبنية على تسعة موضوعات أو برامج رئيسية، من ضمنها «تعليم المياه من أجل التنمية المستدامة»؛ وذلك بسبب أهمية المياه ودورها الحيوي في التنمية الإنسانية المستدامة.
وقد قام قسم علوم المياه بـ «اليونسكو» بتكليف البرنامج الهيدرولوجي الدولي - أحد برامج اليونسكو الدولية المختصة ببحوث المياه وإدارة الموارد المائية والتعليم وبناء القدرات - بتطوير وتنفيذ برامجَ تعليمية شاملة للإدارة المستدامة للمياه العذبة.
ومن جهته، قام البرنامج الهيدرولوجي الدولي بالاستعانة بمجموعة عمل عالمية مشكّلة من 8 متخصصين وخبراء في مجالات المياه والتعليم وبناء القدرات، كان كاتب المقال أحد أعضائها ممثلا عن المنطقة العربية؛ لإعداد خطة عمل تنفيذية مفصلة تهدف إلى إيجاد بيئة ممكنة وتوفير الفرص لبناء القدرات الوطنية للدول الأعضاء في «اليونسكو»؛ كي تدعم المؤسسات المسئولة عن المياه، والمعاهد التعليمية والتدريبية، والإعلام، والقطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني، في اتخاذ تعليم المياه استراتيجية مهمة في تحقيق أهداف إدارة الموارد المائية المستدامة.
ومن أهم ما توصلت إليه مجموعة العمل هو أن تحسين المستوى الحالي لإدارة الموارد المائية في دول العالم سيحتاج إلى زيادة رفع الوعي العام للمجتمع عموما في هذه الدول، وقدرة هذه المجتمعات على التعامل والتكيف مع القضايا المائية التي تواجهها؛ للعمل نحو مستقبل مستدام للموارد المائية التي تعتمد عليها، وأنه حتى في حال وجود الإرادة والالتزام السياسي في هذه الدول فإن موضوع رفع الوعي ينبغي عدم إغفاله وينبغي اعتباره من الأمور الأساسية والمكمِّلة في التعامل مع هذه المشكلات.
إلا أن نظرة الأفراد والمجتمعات إلى المياه وتصرفاتهم في التعامل معها هي من الأمور التي يصعب تغييرها، وقد لا يمكن تغييرها ببساطة بواسطة تزويد أفراد المجتمع بالمعلومات والقيام بحملات رفع الوعي التي تركز على رسائلَ مبسطة عن «القيام بالفعل الصحيح» في مجال المحافظة على المياه، والتي تفشل في الأخذ بالاعتبار التعقيدات المتعلقة بتصرف الإنسان، والتي غالبا ما تكون تأثيراتها قصيرة المدى وتنتهي بنهاية حملة التوعية.
ويمكن للمراقب أن يرى أن هذا هو أساسا ما تقوم به حاليا معظم دول مجلس التعاون في بداية كل صيف في حملات ترشيد استخدامات المياه وتذكير المستهلك بالمشكلة المائية وضرورة تعاونه في حلها، في محاولة منها لكبح جماح الاستهلاك المتصاعد خلال هذه الفترة الحرجة. إلا أن هذا الأسلوب وحده قد أثبت عدم فاعليته في تحقيق رفع الوعي العام للمجتمع إلى الدرجات المطلوبة، وهناك ضرورة للنظر إلى مسألة رفع الوعي بشكل علمي أكثر، والتركيز على التعليم وبناء القدرات لجميع شرائح المجتمع لتحقيق التغيير والتحول المجتمعي المنشودين نحو الإدارة المستدامة للموارد المائية لتساهم في التنمية المستدامة لهذه المجتمعات.
وفي هذا المجال يبرز التعلم المجتمعي (Social Learning) - البعد الإنساني في الإدارة المستدامة للمياه - عملية رئيسية في التحول بعيد المدى لمجتمع مستدام، وهو جانب يزداد الاعتراف بالدور الكبير الذي يلعبه في إدارة الموارد الطبيعية. يُعَرَّف التعلم الاجتماعي بأنه «العملية التي تحدث بها تغييرات في المجتمع تشمل أساسا التغيير في الوعي العام والتغيير في نظرة الأفراد إلى مصالحهم الشخصية مع المصالح المشتركة مع المواطنين»؛ ما يعطي عملية التعلم المجتمعي البعدين المعرفي والأخلاقي معا، وكلاهما سيعتمدان على المعرفة والفهم لقضايا إدارة الموارد المائية، والخبرات والتجارب الايجابية التي توضح أخلاقيات استدامة المياه، والتمييز الأخلاقي بين المصالح الشخصية والمصالح العامة في الحكم على قضايا المياه، والالتزام والمهارة والقدرة على القيام بالفعل المطلوب.
ولقد قامت مجموعة العمل المتخصصة هذه بتحديد خمس شرائح رئيسية لتركيز النشاط عليها في تعليم المياه للوصول إلى مجتمع واعٍ مائيا وقادر على التكيف مع المشكلات المائية، وهي: تعليم المياه وبناء القدرات في التعليم الجامعي وللمختصين وصنّاع القرار، وفي معاهد التدريب المهنية والتقنية، وفي المدارس حتى المرحلة الثانوية، وللمجتمع والمنتفعين، ولوسائل الإعلام.
ومن هذه الشرائح يعتبر التعليم في المراحل الابتدائية والثانوية حجر الزاوية في المجتمعات الحديثة وأهمها على الإطلاق؛ إذ يمثل إدماج التعليم البيئي/ المائي في المناهج التعليمية، مثل المعلومات المتعلقة بالخدمات والوظائف التي تقوم بها البيئات الحيوية والعلاقة بين الفعل ورد الفعل بين أنشطة الإنسان والظروف البيئية، الأساس للوعي البيئي/ المائي، ومبادئ وأخلاقيات الاستدامة، وإنشاء المواطنة البيئية حاليا ومستقبلا.
ويتمثل التحدي في التطرق إلى قضايا المياه وإدماجها في هذه المراحل الدراسية في 4 مستويات، التحدي الأول على مستوى الأهداف من حيث المنافع الشخصية والمجتمعية من التعلم في المياه، والثاني على مستوى المحتوى أو المضمون، من حيث ما هو المطلوب تعليمه في قضايا المياه، والثالث على مستوى العملية التدريسية نفسها، أي كيفية إيصال/ تدريس قضايا المياه، والرابعة على مستوى القدرات، من حيث المعرفة والمهارات المطلوبة في المدرسين ليتسنى لهم توفير تجاربَ ذات جودة عالية وفعالة لقضايا المياه لتلاميذهم.
وبالإضافة إلى ذلك، إن التعليم يجب ألا يكون مقتصرا على التدريس الرسمي داخل الصف فقط، وإذا تم تعريف المنهج الدراسي على أنه «مجموع كل التعليم الرسمي وغير الرسمي والخبرات المكتسبة التي توفرها المدرسة»، فإن التعليم لاستدامة المياه لا يمكن تحقيقه من خلال إضافة مادة جديدة إلى المنهج الدراسي. وإنما يجب أن يكون بعدا يتم تأكيده في كل جانب من جوانب الحياة في المدرسة، ويجب أن يتخلل كل المنهج الدراسي، ويكون مرتبطا بجميع الجوانب في المنهج؛ كي ينمّي قدرات الناشئة للاستجابة للتغيرات وإدارتها، وتزويدهم بالرغبة والمهارات للعمل لخير المجتمع، ويثير لديهم الرغبة في تغيير نمط الحياة والتصرفات غير الرشيدة التي تُمَارَس حاليا للمساهمة في ضمان مستوى أعلى للمعيشة لهم وللآخرين.
عموما، هناك أربعة أنواع من الأهداف ينبغي تحقيقها في مجال تعليم المياه، الأول هو هدف «المعرفة» ويشمل فهم مبادئ وأساسيات علوم المياه، والعلاقة بين المياه والمجتمعات الإنسانية، والاستراتيجيات المطلوبة لضمان استدامة إدارة المياه، والثاني هدف «القيم والاتجاه» المتعلقة بأخلاقيات المياه المبنية على الالتزام للموازنة بعناية بين الاهتمامات البيئية والاجتماعية والاقتصادية في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالمياه، والهدف الثالث هو «مهارات التفكير واتخاذ القرار» والقدرة على التحليل العلمي المبني على الأدلة والتفكير الانتقادي (critical thinking) للقضايا المتعلقة بالمياه لاتخاذ القرارات المبنية على قيم الاستدامة والمبادئ الاحترازية، والهدف الرابع هو «المواطنة النشطة والعليمة» والرغبة والمهارات للعمل مع الآخرين للمساعدة على ضمان استدامة المياه.
أتمنى على دول مجلس التعاون أن تستفيد من «عقد التعليم من أجل التنمية المستدامة» عموما، والبرنامج المتفرع منه المتعلق بـ «تعليم المياه من أجل التنمية المستدامة» خصوصا، والتي هي بأمسّ الحاجة إليه؛ بسبب وقوعها في منطقة تُصَنَّف من أكثر مناطق العالم ندرة في المياه، والاستفادة من هذه الفرصة؛ بسبب تحريك وتوفير حجم كبير من الموارد المالية والبشرية لمنظمات الأمم المتحدة في هذا الاتجاه - علما أن دول مجلس التعاون تعتبر من الدول ذات المساهمات المالية العالية في دعم برامج الأمم المتحدة وحري بها أن تستفيد من هذه البرامج - والمشاركة في برامج العقد بشكل فعّال منذ الآن والعمل على تطوير وتعديل برامجها التعليمية مع خطة عمل «اليونسكو» والاستفادة منها قدر الإمكان، مع عدم تملك الشعور بخشية أن يمر العقد قبل أن تلتفت إليه هذه الدول وتضيع الفرص المتاحة منه.
كما أتمنى أن تُعطى قضية رفع الوعي المائي في دول المجلس نظرة أعمقَ وأبعدَ مدى من النظرة الحالية المتمثلة في حملات التوعية الموسمية، وتتحول إلى عملية تحول مجتمعي شامل نحو الإدارة المستدامة للموارد المائية لتساهم في التنمية المستدامة لمجتمعات هذه الدول، وتتعاون الجهات المعنية بالمياه والبيئة والتربية والتعليم والتنمية البشرية وغيرها ذات العلاقة للقيام بالإجراءات المطلوبة لدمج «تعليم المياه من أجل التنمية المستدامة» في استراتيجياتها وبرامجها التعليمية قدر المستطاع للوصول إلى مجتمعٍ موجهٍ مائيا وقادرٍ على التعامل مع ندرة المياه المتزايدة باستمرار في هذه الدول.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1871 - السبت 20 أكتوبر 2007م الموافق 08 شوال 1428هـ