حين ألمَّ مرض الموت برسول الله (ص)، خطب في الناس وطالب من أصابه سوء منه بالاقتصاص، ومن ضمن ما قال: «... ألا فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه... ومعروف قصة الرجل الذي انبرى إليه ويسمى سوادة بن قيس، فقال له: يا رسول الله انك ضربتني بالسوط على بطني، وأنا أريد القصاص منك. فأمر( ص ) بلال أن يحضر السوط ليقتص منه سوادة، فأخذ السوط وجاء به إلى الرسول (ص) فأمر أن يناوله لسوادة ليقتص منه، فأخذه سوادة وأقبل نحو رسول الله (ص) إذ أخذ منه المرض مأخذا، وكشف له عن بطنه، مبديا استعداده التام للقصاص، ومعروفة بقية القصة المؤثرة التي أبكت الحاضرين لذلك الموقف، والتي استبدل سوادة القصاص بأخذ الإذن من رسول (ص) بتقبيل موقع القصاص في بطنه.
هذا الذي يصفّي النفوس ويطمئن القلوب، أما إهمال قضايا ضحايا العنف السابقة الخاطئة والتعامي عنها وكأنها ليست موجودة، فلا يزيد الفتق إلاّ اتساعا، بجانب كون ذلك التجاهل، مجافاة لقانون العدل والإنصاف. العيد تلو العيد يمر على ضحايا حقبة أمن الدولة، ولم يحرّك ساكنا لمداواة جروحهم التي ما فتأت تُنكأ من عدّة جوانب وجهات، فالأمراض المزمنة التي مازالت تثير ذكريات الزنزانات المؤلمة، وممارسات بعض أفراد رجال الأمن، تجدد الحنق والغضب كلما لاحت صورة من صور بطشهم. وإذا كانت الدولة جادة في محو آثار الماضي فليس أقل من المصالحة التي تعوّض ضحايا تلك الحقبة بدرجة تعدّ اعترافا بمظلوميتهم، وتوثيقا تاريخيا لما أصابهم، أما الأنفة والكبرياء حتى عن مجرد الاعتراف بأن ما أصابهم كان خطأ يستوجب الاعتذار، فهذا لا يُشعر الضحايا وعامة الشعب بحسن النية، ولا يستبدل الشك بزرع الثقة، ولا يزيل ما علق في القلوب من غلٍّ، بل يبقي العلاقة مشوبة بهواجس تعزّزها حوادث الماضي الأليم، وطعم مشوب بمرارات حقبة قانون أمن الدولة.
ويكفي بقاء «رموز التعذيب» لتلك الحقبة المعتمة في مراكزهم حتى يُعذر من يبدي دوما وفي كل حدث وموقف، شكوكه، فكيف الوضع مع المكابرة والترفع عن مداواة تلك الجروح الغائرة، وكل ما نعرفه محاولات بعض الجهات إسكات الأصوات المطالبة بحقها.
لو لمس الضحايا الصدق في طي صفحة الماضي، لكان ذلك مقدمة الإقرار بحقيقة ما جرى. من يقبل أن يهان ويُشتم أمام الملأ مقابل حفنة من المال؟ المال مهم وقد جعلته الشريعة عوضا عما يذهب من جسم الإنسان أو فقدانه نسبة من قدرته على الكسب وحرمان من يعولهم من الرزق، فمن جرح أحدا وأدماه فعليه دية، ويتدرج مقدار الديات حتى يصل أعلاه في القتل الخطأ. ولو وُجد رجل مقتولا لا يُعرف قاتله، فإن الدية من بيت مال المسلمين في رأي بعض المذاهب، ولكن الدية التي يدفعها الجاني يسبقها اعتراف منه بخطئه، واعتذاره عمّا بدر منه وبظلامة المصاب أو المقتول، عمدا أو خطأ. أما دفع المال من دون اعتذار رسمي أو إقرار بالخطأ، فهذا يعني عدم الاعتراف بالخطأ في حق المتضررين، وبالتالي إن الثقة المفقودة ستتكرس وسيبقى هؤلاء جرحا في جسد هذا البلد، يتجدد دائما ولا سبيل لشفائه واندماله.
هناك كمّ هائل من التاريخ المزوّر قامت بكتابته أقلام استأجرتها بعض الجهات أثناء انتفاضة التسعينات حين ملئت الصحف المحلية بصور الأبرياء والضحايا الذين تم تصويرهم على أنهم مجرمون جنائيون وليسوا بطلاّب حق ومظلومين. آثار التعذيب وتقطيع الأعضاء والإصابات التي مازالت إلى يومنا هذا آثارها تظهر بين فترة وأخرى على بعض الضحايا على شاكلة أمراض خبيثة تخطفهم إلى ملاحدهم الأبدية تحت الأرض.
مع ذلك، فهذه كلها أخف من تلك التهم الموثقة زورا في صفحات الصحف المحلية وغير المحلية ووثائق محاكم أمن الدولة وغيرها، وهذه التهم والأقوال الظالمة بحق الضحايا وأبنائهم وعوائلهم أشدّ مضاضة على النفس من الآثار الجسدية التي قد تندمل أو تأخذ المصاب إلى الراحة الأبدية. فـ «جراحات السنان لها التئام ... ولا يلتئم ما جرح اللسانُ».
ولا خيار سوى الاعتراف بخطأ تلك الممارسات وكتابات أقلام الزور، والاتفاق على آلية معينة للمصالحة، بجانب التعويض المعنوي كتسمية بعض الشوارع بأسماء الشهداء والتعويض المادي المجزي للضحايا وأهاليهم وكفالة أبناء الشهداء إكراما لآبائهم على ما قدموه من تضحيات لسيادة قيم السماء في الوطن. هذا ما سيعطي المشروع الإصلاحي صدقية وأثرا طيبا في النفوس، ومن دون إغلاق هذا الملف، فسيظل كالعظم العالق في الحلق، لا يهنأ بوجوده عيش ولا يُستلذ بسببه بطعام أو شراب.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1871 - السبت 20 أكتوبر 2007م الموافق 08 شوال 1428هـ