العدد 1870 - الجمعة 19 أكتوبر 2007م الموافق 07 شوال 1428هـ

الاقتتال بين «دولة» باكستان و«قبيلة» أفغانستان

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الانفجارات التي استقبلت رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة بينظير بوتو بعد عودتها من المنفى وأسفرت عن مقتل 150 شخصا وجرح المئات أعطت إشارة سياسية إلى عدم استقرار دولة نووية ومتقدمة في صناعاتها العسكرية. فالاستقبال الشعبي (قدر بالمليون) المعزز بحراسة أمنية هائلة (20 ألف شرطي) لم يمنع «المتشددين» من تنفيذ تهديداتهم.

التفجيرات أكدت على وجود خلخل أمني في دولة تتجاذبها استقطابات سياسية تتراوح ما بين مؤسسة الجيش وهيئات مدنية ذات طابع قبلي وإقليمي (مناطقي) وأحيانا طائفي (أقوامي). وشكل هذا الاستقطاب معضلة بنيوية أخذت تتراكم منذ استقلال (انفصال) باكستان عن الهند في العام 1949. وهذه المعضلة المركبة في تعقيداتها الاجتماعية وتضاريسها القبلية (الاقوامية) زادت المخاوف الأمنية من توترها الأهلي بسبب وجود الهند على حدودها الشرقية وأفغانستان (المضطربة دائما) على حدودها الغربية - الشمالية.

باكستان منذ تأسيسها لم تستقر. فهي عرضة للتهديدات الهندية ونزاعها على كشمير في الشمال. وأيضا كانت ولاتزال تتعرض للزعزعة الأمنية الناتجة عن تداخل تضاريسها الطبيعية (الجبلية) والاجتماعية (القبلية) مع أفغانستان.

أدى عدم الاستقرار إلى تركيز الدولة أنشطتها الاقتصادية لتطوير مؤسسة الجيش وتحديثه حتى يكون دائما على أهبة الاستعداد لمواجهة هجمات متوقعة من الهند. وهذا ما أسفر عن إنتاج دور سياسي للهيئة العسكرية في ترتيب وتنظيم العلاقات الأهلية في الداخل. فالجيش يعتبر أهم هيئة اقتصادية تضم العلماء والخبراء والنخبة ويتمتع بموقع خاص في إدارة الإنتاج والإشراف على توجيه القطاعات وتوظيفها لخدمة الأغراض الدفاعية وضبط الاستقرار الأمني.

إلا أن هذه المؤسسة التي لعبت دورا سياسيا في حماية الدولة وسيادتها واستقلالها سواء على مستوى خوض الحروب مع الجارة الهندية (الحدود وكشمير) أو على مستوى الداخل حين نفذت انقلابات عسكرية وأطاحت بأنظمة الحكم المدنية أخذت تواجه تلك الرياح الساخنة من جارتها أفغانستان.

تأثير أفغانستان على باكستان لا يقل في نسبته الاجتماعية (القبلية) والسياسية عن تأثير باكستان على أفغانستان. فالدولة حين تكون مستقرة أو مضطربة في كابول تترك تأثيراتها الإيجابية أو السلبية على إسلام آباد. والعكس صحيح.

هذا التأثير المتبادل مر في محطات زمنية وكان له دوره السياسي في صوغ شخصية الدولة وتركيبتها وتحالفاتها القبلية والإقليمية والدولية. وكانت باكستان تلعب دائما دور القائد الذي يقرر مدى الاستقرار في أفغانستان. ولكن الأخيرة كانت بدورها تلعب دورا في توجهات الدولة الباكستانية وتفرض عليها أحيانا سياسة إقليمية حتى تضمن حدودها وموقعها المهدد دائما بغزو أو حرب من الجارة الهندية.

في عهد الاتحاد السوفياتي مثلا شهدت العلاقات بين موسكو ونيود لهي تحسنا ملحوظا وخصوصا في القطاع الصناعي العسكري. وبسبب مخاوف إسلام آباد القومية اضطرت الدولة إلى تطوير علاقاتها مع الصين مستفيدة من تلك الخلافات الحدودية (هضبة التيبت) بين بكين ونيودلهي. وحين أقدم الكرملين على اتخاذ قرار غزو أفغانستان في العام 1979 وجدت باكستان نفسها في موقع المهدد أمنيا من السوفيات فلجأت إلى تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة مستفيدة من حاجة واشنطن إلى موقع جغرافي (استراتيجي) تستطيع من خلاله إدارة الحرب واستنزاف خصمها الدولي في ساحة مفتوحة للصراعات القبلية الممتدة إقليميا. وحين انسحب السوفيات من أفغانستان في العام 1989 تشكلت في باكستان قوة سياسية وجدت في كابول ركيزة محلية يمكن الاعتماد عليها لتطوير نفوذ إسلام آباد الإقليمي.

كل هذه الفضاءات الدولية والإقليمية ساهمت في رسم شخصية باكستان التي فرضت عليها ظروفها الأمنية ومخاوفها القومية اتباع سياسات وتحالفات تقوم على فكرة حماية الدولة وضمان استقرارها وسيادتها. وشكل هذا التوجه القلق نقطة توازن في الداخل أعطت لمؤسسة الجيش ذاك النفوذ القوي وقدمت له امتيازات اقتصادية (قطاع الإنتاج العسكري) وصلاحيات سياسية في ترتيب انقلابات أو التدخل لتعديل مواقع حين تضعف الهيئات المدنية في إدارة الدولة.

لعب موقع باكستان الجيوبوليتيكي دوره في تقرير تاريخ الدولة الحديثة التأسيس. فالدولة مهددة أمنيا من الشرق والشمال وهي لا تستطيع الاستغناء عن الجيش ووظيفته في حماية الحدود والسيادة. والدولة أيضا فقيرة في مواردها وموادها الطبيعية وكثيفة السكان ومتنوعة في تركيبها الاجتماعي وتضاريسها القبلية. وبسبب تجاذب المصلحة القومية بين الأمن والاستقرار من جهة والنمو والتنمية من جهة أخرى عاشت الدولة حالات من الانقلابات العسكرية تعقبها لحظات من الحياة المدنية ثم العودة إلى الانقلابات وبعدها تعود اللعبة البرلمانية القبلية. وزاد هذا التجاذب السياسي بين العسكري والمدني من عدم قدرة الدولة على تكييف اقتصادها مع مؤسسة عسكرية تستنزف ثروتها وموازنتها مقابل الملايين من الفقراء الذين يبحثون عن عمل يؤمن الحد الأدنى من الحاجات البسيطة والمتواضعة.

القبيلة والدولة

هذه المشكلة المزدوجة شكلت معضلة بنيوية جعلت الدولة غير قادرة على تحديد هويتها السياسية وحسم خياراتها بين الجيش أو البرلمان. فهي بحاجة إلى القوة العسكرية للحماية وهي لا تستطيع الاستغناء عن الحياة المدنية في اعتبار أن البرلمان يشكل لعبة سياسية تخفف من توتر القبائل ونزوعها الأهلي نحو التصادم.

هذا الجمع بين الجيش والقبيلة والديمقراطية أنتج دولة امتزجت فيها خصوصيات أضعفت قدرة باكستان في التأثير على جارها القبلي المضطرب أمنيا. فأفغانستان التي طردت السوفيات من أرضها وهضابها واجهت صراعات داخلية نجمت عن ذاك الفراغ الأمني بعد الانسحاب. وساهمت تلك المواجهات القبلية في توليد عنف أهلي أدى في النهاية إلى تأسيس حركة «طالبان» بدعم المؤسسة العسكرية الباكستانية بذريعة حماية الحدود وضبط الاستقرار في بلد تتكاثر فيه القبائل والأقوام (البشتون الطاجيك، الأوزبيك، الهزارة، الايمك، التركمان، والبلوش) واللغات (البلوشية، البشعية، التركية، الاوزبكية، التركمانية، الدارية، والبشتو إضافة إلى 30 لغة ثانوية) والأقاليم (30 ولاية موزعة على جغرافيا غير متجانسة).

«طالبان» كانت حاجة أمنية باكستانية ساهم الجيش في تأسيسها ودعمها وتدريبها في العام 1992 بهدف ضبط الحدود وتأمين استقرار أهلي يصب لمصلحة نفوذ إسلام آباد ودورها الإقليمي. هذه الحاجة أسفرت عن نجاح «طالبان» في الهيمنة على 25 ولاية أفغانية بالقوة في العام 1996. وأدى هذا النجاح إلى ضبط الاستقرار وضمان حدود باكستان من التهريب الناجم عن التداخل القبلي.

إلا أن اتهام الولايات المتحدة لحركة «طالبان» في تأمين ملاذ أمن لتنظيم «القاعدة» أدى إلى توتير العلاقات الأميركية - الباكستانية وقيام واشنطن باتخاذ تدابير للضغط على إسلام آباد بذريعة أنها تدعم قوة إرهابية تهدد المصالح الغربية في المنطقة. واستمر هذا التجاذب إلى أن وقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. بعد وقوع الهجمات عادت باكستان إلى خريطة الولايات المتحدة الدولية، فهي بحاجة إلى موقعها الجغرافي / السياسي الذي اكتسب أهميته الآن بعد تراجعه على إثر الانسحاب السوفياتي.

استفادت إسلام آباد من المتغيرات ولكنها أيضا خسرت كثيرا. فهي من جهة استعادت تلك الثقة المفقودة من واشنطن ولكنها من جهة أخرى أعادت فتح حدودها للغزو الأميركي.

احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان في نهاية 2001 أدى إلى تغيير قواعد اللعبة الدولية إذ أصبح لواشنطن ركيزة إضافية إلى جانب باكستان. ولكن «طالبان» نجحت بعد ست سنوات على الغزو في النهوض واستعادة بعض مواقعها من دون غطاء من إسلام آباد. وتشكل هذه العودة خطوة ارتدادية قبلية / حدودية ستؤثر سلبا على أمن باكستان ومخاوفها السياسية من عودة الاضطراب الأهلي بتأثير أفغاني.

ما حصل أمس الأول في كراتشي من انفجارات استقبلت بوتو بعد عودتها من منفى لمدة ثماني سنوات يشكل إشارة سياسية على بدء تحولات في الصورة الإقليمية ربما تؤدي إلى تعديلات في طبيعة العلاقة بين باكستان (الدولة) وأفغانستان (القبيلة) وخصوصا بعد أن أظهرت التطورات الميدانية فشل الغزو الأميركي في تحقيق أغراضه. وهذا الأمر إذا حصل يحتاج إلى وقت للتبلور في صيغته النهائية. وهي صيغة لن تكون في صورتها القبلية لمصلحة دولة باكستان.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1870 - الجمعة 19 أكتوبر 2007م الموافق 07 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً