في يوم الأحد الموافق الثالث من شوال من العام 2007 رحل عنا سمو الشيخ سلمان بن محمد آل خليفة أثناء تعرضه لحادث أليم خلال ممارسته هواية الغوص في سلطنة عمان الشقيقة، وهو ما ترك أثر الفجيعة الأليمة في قلوب جميع من عاصره وعرفه عن قرب، وتعامل معه في مختلف الميادين الاجتماعية والوظيفية التي تقلد فيها مختلف المناصب، حتى جميع من أعجب بما سمعه عنه ورآه من ذلك الإجماع العام على هذا التخليد والذكر الطيب.
ولربما سيكون من المناسب جدا حين البدء بكتابة الرثاء، وهو أقل ما يستحقه الراحل الكبير، أن نستحضر القول المأثور للشاعر الكبير أحمد شوقي الذي جاء وأعطى ترجمة واقعية موجزة لجوهر تراثنا العربي والإسلامي، وقام بتجلية الناموس الأبرز لسيرورة البقاء والاندثار الحضاري وهو:
«إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا»
ومثل ذلك الاستحضار والاستشهاد من أبي القوافي وأمير الشعراء يأتي لما كان للأخلاق والمناقب العالية من دور بارز في تكوين صورة حقيقية لشخصية الراحل الكبير.
فهذا القول المأثور لم يأتِ عبثا أبدا وإنما جاء ليعبّر عن مكنون القيمة الاعتبارية العالية التي تجسدها الأخلاق ومهارات الاتصال والتواصل على نطاق التماسك الاجتماعي والرقي الحضاري!
إنها الأخلاق، وهي التي تصنف ضمن أكبر مفاتيح التماسك والتقدم الاجتماعي الحضاري، فهي أداة خارقة بمفاعيلها السحرية في جبر القلوب والنفوس وتنقيتها إذا ما أُحسِن التعامل بها مع الجميع، كما أن سوء التعامل بهذه الأداة أو المَلَكة الخارقة من قِبل أصحابها من الممكن أن يحدث آثارا تدميرية على القلوب والأنفس لا ينفع معها أي ترقيع أو تضميد أو تجبير سياسي أو اقتصادي!
فمكارم الأخلاق والمناقب العالية ومهارات الاتصال والتواصل الحضارية التي هي قد ترقى أحيانا إلى مرتبة المَلَكات التي ينعم الله تعالى بها الكثير من خلقه تسبق جزما جميع الاعتبارات السياسية والاقتصادية، لا يجوز الحديث عنها ضمن روابط الموالاة أو المعارضة لتسبق عبثا مفاتيح الرابطة الأخلاقية الحضارية، فالأخيرة هي عنوان جميع الروابط التآلفية والتضامنية الإنسانية، وخير الجزاء لمن يتحلون بها ويجيدون التعامل مع الجميع بها هو خالص المحبة والتقدير والاحترام وتخليد الذكر والأثر الذي يتوارثه الجميع ولا يفنى.
وما عُرِف عن سمو الشيخ سلمان من دماثة خلقية عالية تتجلى منها الطيبة والدعة والألفة والتواضع الجم والانفتاح الإنساني على الجميع من دون إعطاء العوامل الإثنية والمذهبية والطبقية الفارقة أي اعتبار أو قيمة تجعل منها سبّاقة على مكارم الأخلاق ومحاسنها جميعا، وتلك الدماثة الأخلاقية العالية لكفيلة وحدها بتخليد الذكرى العطرة والآثار المناقبية الجليلة لهذا الراحل الكبير، والتي هي خير ما يبقى بعد الرحيل كالمسك والعنبر في قلوب وأنفس من عرفوه وعاصروه، وهو الذي لم يبخل عليهم قط بأي مساعدة وتعاون مشرق في مختلف المجالات، فقد كان يضع الكرامة الإنسانية للجميع، ورضاهم فوق رأسه الشامخ ونصب عينيه.
فشخصية سمو الشيخ سلمان كما عرفها من تعامل معه عن قرب وكثب من مختلف أفراد المجتمع في مختلف الميادين الاجتماعية والحياتية اليومية، كانت تجسد شخصية البحريني الوطني الأصيل بكل ما عُرِف عنها من بساطة وألفة شعبية وتواصل اجتماعي في السراء والضراء، فمازلت أذكر زيارته لنا أثناء عزاء جدي المرحوم يوسف المطوع، إذ كان من بين الأسبق في تعزيتنا ومواساتنا بفقدنا الجلل.
كما أني كنت ولا أزال أذكر شهادة عمي عبدالله المطوع عن الراحل الكبير والذي كان ضمن أفضل طلابه في المدرسة سلوكا واحتراما وتقديرا للمعلمين وتعاونا مع زملائه وانضباطا مع جو الدراسة ولوائحها وقوانينها، وكيف استمرت تلك المزايا الخلقية الراقية والكفيلة بوضع وتنصيب الراحل الكبير أعلى مقام لدى جميع من عاصره وعرفه وتعامل معه عن قرب في شتى الأماكن الوظيفية والمناصب التي كان قد تقلدها، ومنحها بانفتاحه وتواضعه العام نكهة مميزة يستحيل أن تُنْسَى وتزول آثارها من قلوب الناس مهما اختلفت الظروف وتنوعت.
ففي سمة البساطة والتواضع العام وحدها، وذلك بما تكتنزه من قيمة إنسانية راقية، وإقرار وجودي أصيل ومُسَلَّم به، وما تمثله من مرونة في الانفتاح على مختلف فئات الشعب وطوائفه، يكمن المعدن والمضمون الحقيقي للسمو الإنساني والتمايز النوعي والرقي الحضاري.
وأخذا بالبدهية القائلة: إن الإنسان ابن بيئته، وابن وسطه الاجتماعي الخاص والعام، فإن تلك الدماثة الخلقية العالية بشتى جوانبها وأبعادها التي لطالما ميزت فقيد الوطن الشيخ سلمان من غيره إنما جاءت لتمثل انعكاسا حقيقيا وصافيا لجودة ما أنتجه وينتجه نظام الأخلاق والسلوكات والتواصلات الاجتماعية الراقية المنبثق داخل البيت الخليفي المقرب نسبا وانتماء من مركز الحكم وسدته، والتي اكتسبها الراحل الكبير ابن هذا البيت من الوسط والبيئة الاجتماعية ذاتهما اللذين ينتمي إليهما، فالراحل الكبير كان نموذجا لأصحاب السمو، وهو الذي يعد - في الوقت ذاته وببعد أكثر عمومية وشمولا - مجسدا وباعثا لما تميز به البحريني الأصيل من أخلاق عالية.
وإن كان قد روي عن الرسول الأعظم (ص) قوله: «ما من شيء أثقل في الميزان يوم القيامة من حسن الخلق»، وقوله: «أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه»، وقوله: «إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا»، فإننا ندعو الله تعالى أن يرحم فقيد الوطن الغالي سمو الشيخ سلمان ويدخله فسيح جناته ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1868 - الأربعاء 17 أكتوبر 2007م الموافق 05 شوال 1428هـ