تنبع أهمية الرأي العام من حقيقة أن باستطاعته لعب دور حاسم، ضمن نظام ديمقراطي، في نقل السلطة بين القوى السياسية المختلفة. يتوجب على القادة السياسيين والأطراف الأخرى أن تتذكر دائما أنه عندما يحل يوم الانتخاب، سيحكم الناخبون على أدائهم ويقررون ما إذا كانوا يستحقون إعادة الانتخاب أو اسقاطهم لأنهم خيبوا ظن ناخبيهم. لذا يتوجب على برامج الأحزاب السياسية أن تأخذ بعين الاعتبار دائما الأجندة العمومية والاهتمامات الأكثر اتساعا.
لا ينطبق هذا المبدأ على مضمون النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
على الجانب الفلسطيني، جرت إعاقة هذه العملية منذ البداية، ويتم في نهاية المطاف إحباطها. للمرة الأولى كان الرأي العام الفلسطيني منهجيا في استبدال نظام فتح بنظام «حماس» الجديد الذي وعد بالشفافية والحكم الجيد واستئصال الفساد. النتيجة كانت كارثة سياسية واقتصادية، بسبب مقاطعة المجتمع الدولي لحكومة «حماس» النمتخبة والحصار الذي فرضه على المناطق المحتلة.
إضافة إلى ذلك جرى تلقيم الرأي العام الفلسطيني بأوهام عبر سنوات طويلة من الكفاح الوطني الفلسطيني من أجل التحرير والاستقلال. في الوقت نفسه تأثر هذا الرأي العام بالمجازر البشعة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي والمستوطنون اليهود ضد الشعب الفلسطيني. ممارسات الاحتلال هذه تعمّق من الحقد وعدم الثقة بين الفلسطينيين من ناحية وترفع حدة الحوار وتسبب صدمات وردود فعل وتطرفا من ناحية أخرى. لقد أعمى الاحباط وخيبة الأمل الفلسطينيين إلى درجة أنهم أضحوا لا يستطيعون التفكير بإمكان أي تطور إيجابي داخل المجتمع أو الرأي العام الإسرائيلي.
ومن الأمثلة الأخرى قضية حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم وأراضيهم داخل «إسرائيل». لقد اصرَّت المنظمات الفلسطينية وبشكل متواصل على أنه لن يكون هناك حل وسط أو تسوية من دون تحقيق حق العودة وتطبيقه. وقد جرى التذكير بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشكل متواصل للتأكيد على هذا الحق. إلا أن أحدا لم يوضح حقيقة أن مجلس الأمن لم يقم بصوغ القرار وإنما قامت بذلك الجمعية العامة، التي تفتقد إلى السلطة لغرض تطبيقه، حتى لو رجعت به إلى مجلس الأمن. والسبب في ذلك موقف الولايات المتحدة حيال النزاع والضغط الذي تمارسه على الدول الأعضاء لإثنائها عن دعم تطبيق القرار 194، ولأن «إسرائيل» لن تسمح بعودة اللاجئين الفلسطينيين، حيث أن اهتمامها الرئيسي هو ضمان الطابع اليهودي للدولة والحفاظ على غالبيتها اليهودية. نتيجة لذلك، وعلى رغم أن القيادة الفلسطينية الحالية مستعدة للتوصل إلى حل وسط بشأن حق العودة مقابل انسحاب إسرائيلي من القدس الشرقية والضفة الغربية، إلا أن الشعب الفلسطيني لم يلحق بقيادته بعد، وما فتئ يؤمن بإمكان تحقيق حق العودة. عندما يحين الوقت، إذا حصل ذلك، لن يكون الرأي العام الفلسطيني قد نضج بشكل كافٍ للموافقة على الحل الوسط، وستواجه القيادة مهمة إقناع شعبها بالانصياع لتلك التسوية. ستثبت تلك بأنها مهمة صعبة، ولكن ليست مستحيلة.
أما بالنسبة لـ «إسرائيل»، فعلى رغم أنها دولة ديمقراطية يحدث فيها تغيير دوري في الحكم، إلا أن الرأي العام الإسرائيلي يتعرض لتخويف منهجي من قِبَل الأحزاب العقائدية المتنافسة أو القادة السياسيين المتناحرين، يتوقعون من خلاله إملاء أجندتهم الوطنية وأولويات الناخبين. الرأي العام الإسرائيلي يجري تلقيمه بصورة دورية بالمعلومات المضللة بشأن السبب الحقيقي للنزاع ونوايا الشعب الفلسطيني، مركزين على النداء الفلسطيني بحق العودة. كما أن الهجمات الفلسطينية ضد أهداف مدنية في «إسرائيل» تولد الخوف بين الشعب الإسرائيلي وتذكي نار الحقد والشك. الجماعات اليمينة في «إسرائيل» تعرض النزاع على أنه نتيجة لحقد إسلامي تاريخي ضد اليهود، وتناقش أنه لا توجد فرصة حقيقية لتسوية مع الحركة الوطنية الفلسطينية. والحقيقة هي أن انعدام الحل السياسي للنزاع قوّى شوكة الحركات الدينية على الجانب الفلسطيني، الأمر الذي أعطى صدقية لجدل «الكراهية التاريخية». إضافة إلى ذلك، وفي أعقاب فشل محادثات كامب ديفيد الثانية العام 2000، رفع رئيس الوزراء يومها إيهود باراك شعار «لا يوجد شريك فلسطيني» وأقنع الرأي العام الإسرائيلي بأن الفشل عائد برمته إلى الموقف الفلسطيني أو المطالب الفلسطينية. وهذا ليس صحيحا بالطبع لأن باراك نفسه ساهم إلى درجة كبيرة بانهيار المحادثات.
هناك عملية أخرى تتبلور هذه الأيام. في الوقت الذي يدّعي فيه رئيس الوزراء إيهود أولرت أنه يبحث مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس إمكانات مواصلة المحادثات السياسية للتوصل إلى تسوية بشأن النزاع، يحذر باراك، وهو وزير الدفاع الآن، من أن الوقت لم يحن بعد لتسوية سياسية بينما يقوم بتكثيف العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين بهدف إجهاض أية إمكان لعملية سياسية.
حقيقة الأمر هي أن باراك يخطط قدما لانتخابات السنة القادمة، حيث ينوي ترشيح نفسه كزعيم لحزب العمل. نقطة قوته هي خلفيته العسكرية البارزة. وحتى يتسنى له الفوز بالانتخابات وأن يصبح رئيس الوزراء المقبل يتوجب عليه وضع قضية الأمن على رأس أولويات الناخبين الإسرائيليين. وهو يقوم من أجل ذلك بتسريع العمليات الحربية ورفع درجة التوتر وعلى الأرجح تحريض الفلسطينيين على الرد، الأمر الذي سيعمل لصالحه.
ختاما، أعتقد أن كلا من المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني مصاب بالصدمة وغير قادر على لعب دور فاعل في تغيير مواقف قياداتهما. فالرأي العام على الطرفين خاضع لتأثيرات منحرفة فاسدة وبالتالي غير قادر على المساهمة بشكل إيجابي تجاه الجهود الرامية إلى إنهاء النزاع. وهذا يمثل تحديا لحركات السلام ومنظمات المجتمع المدني على الجانبين لجمع قواها بحثا عن أرضية مشتركة لتشجيع الحوار وكسر الممنوعات وبناء جسور الثقة والتفاهم بين الشعبين.
*الناشر المشارك ومحرر مجلة فلسطين - «إسرائيل»، ومشرّع
ووزير سابق في السلطة الوطنية الفلسطينية، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1868 - الأربعاء 17 أكتوبر 2007م الموافق 05 شوال 1428هـ