تشير حصيلة الأعمال الدرامية إلى أن التميز في شهر رمضان جاءنا من حارات الشام، مسلسل باب الحارة حاز مرتبة التميز وشد إليه الأنظار.
لكن لماذا؟ لماذا تابعت الجماهير هذا المسلسل دون غيره من الأعمال الدرامية الكثيرة؟ ولماذا انتهت رحلة الانتقاء التي تبدأ خلال أولى أيام شهر رمضان, إلى تصنيفه في المرتبة الأولى على مستوى اختياراتهم من المنتوجات الدرامية المختلفة التوجه والجنسية؟
وما الذي يميز باب الحارة عن غيره مما قدمته القنوات الفضائية الأخرى؟ بل ما الذي يميزه عن غيره من الأعمال الدرامية السورية التي اتخذت من حواري سورية مسرحا لها؟ فباب الحارة لم يكن أول المسلسلات التي دارت حوادثها في الحارات والبيوت السورية ذات البنية المعمارية الجذابة، وباب الحارة ليس أول المسلسلات التي تناولت مسألة التفاف المواطنين حول المقاومة ومساندتهم لها بل والمشاركة فيها أيضا.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن المتأمل في الحبكة الدرامية التي يطرحها المسلسل في جزئه الثاني، يلاحظ أنها لم تحمل استثناء ولم تحمل معها مستوى عاليا من التشويق والغموض في التنبؤ بالحوادث المقبلة, فهي حكاية من حكايات الحواري الشامية أيام الانتداب الفرنسي لسورية وهي حكاية من مجموع حكايات كثيرة كانت الحارة مسرحا لها ولكنه مع ذلك شد إليه الأنظار والألباب، حتى أن الكثير من الإشكاليات التي تفرضها الحبكة الدرامية عبر حلقات المسلسل كانت تحل في غضون الحلقة أو الحلقتين التاليتين, كما أن المؤلف لم يمنع المشاهد من الاطلاع على الأسرار التي تخفى عن شخصيات المسلسل وهي الطريقة التي يلجأ إليها كتاب السيناريوهات لشد المشاهد حتى الحلقات الأخيرة، بل على العكس تماما فقد اختار كاتب سيناريو «باب الحارة» أن يشرك المشاهد في كل أسرار «أبو عصام» التي أخفاها عن أولاده وأهل حارته وحملته أعباء كبيرة. كل القضايا كان المشاهد على اطلاع بحلولها حتى المسألة المحورية التي انطلقت منها حوادث المسلسل لتتطور على امتداد أيام شهر رمضان وهي طلاق «أبوعصام»من زوجته «سعاد»، كان المشاهد على قناعة بأنها ستجد طريقها إلى الحل, ولم يخب ظنه أيضا. وعلى رغم من الوعد بجزء ثالث للمسلسل, إلا أنه لا قضايا عالقة يتوقع حلها خلال الجزء المقبل.
حوادث المسلسل كانت تتعقد لتحل سريعا والمسائل العالقة كانت تجد طريقها إلى الحسم بسهولة، والمشاهد وسط كل هذا كان مطلع على القضايا والمشكلات عارف بالحلول, متوقع لها.
كثيرون ممن أعرفهم لم يكتفوا بمشاهدة الحلقة الأولى من هذا المسلسل, بل كانوا يعيدون مشاهدتها مرتين وثلاث, وبالتالي فالمسألة لا تقتصر على تشويق يحمله العمل الدرامي بقدر ما هو ولع بمتابعة الحوادث والشخصيات, وذاك هو سر النجاح الذي حققه هذا المسلسل.
أبوعصام, العقيد أبو شهاب ,أبو بشير, أبو حاتم, معتز, عصام، صطيف الأعمى, أبوغالب, وغيرهم كثير, شخصيات يختفي وراءها سر نجاح المسلسل.
نجاح هذا المسلسل واستقطابه لعدد هائل من المشاهدين كان نتيجة حتمية للكاستينغ الموفق لشخصيات المسلسل, ولا يرجع هذا النجاح إلى شهرة الممثلين بقدر ما يرجع إلى إتقانهم لأدوارهم وأدائهم المتقن.
يقال إن النجاح الذي يرتبط باسم الفنان لا باسم الشخصية التي يلعب دورها, هو نجاح تفرضه شهرة هذا الأخير وجماهيريته, وهو نجاح لا يرتبط بالضرورة بقوة الحبكة الدرامية أو لتميز الحوادث وفي أحيان كثيرة لا يرتبط حتى بالأداء الدرامي المتميز، لكن في المقابل عندما تغيب نجومية الأسماء الفنية لتحل محلها نجومية الشخصيات أو الادوار بمعنى أن يعرف الممثل باسم الشخصية التي يلعب دورها، حينها وحينها فقط، يمكن الجزم بنجاح العمل, وهو الحال في باب «الحارة».
حملت شخصيات «باب الحارة» جملة من الشخصيات الرموز، شخصيات حملت قيما وخصالا وطرق تعامل, يبدو أن افتقادنا لها وتوقنا إليها, كان وراء انجذاب الجماهير إلى هذا المسلسل.
القوة, الطيبة، الحزم، الاحترام, التعاون,الصلابة، الحكمة، التضامن بين أبناء الحارة، الصدق، والأهم من كل هذا «الجدعنة»، الشهامة، هذه القيم الغائبة حضرت بقوة من خلال هذا المسلسل وأعادت مشاهديه إلى زمن لا يخاف فيه الفرد على نفسه، زمن آمن يتوق إليه الكل ويفتقده.
الجمهور لم يعش مع حبكة درامية قوية ولم يتابع فنانين مفضلين له ولكنه عاش مع أدوار لعبها أصحابها بدرجة عالية من الإتقان والصدق والاندماج وصلت إلى حد اختفت فيه الأسماء الحقيقية للممثلين, وذاك هو سر النجاح.
لا يسعنا هنا إلا أن نرفع قبعاتنا احتراما لمبدعين حملونا إلى حارتهم لنعيش معهم، هكذا ببساطة من دون عقد درامية.
لا أعني بهذا أن المسلسل افتقد الرسائل الأخلاقية أو القضايا التي يتكفل كل عمل درامي بطرحها ومعالجتها بل على العكس تماما المسلسل حمل أخلاقيات اجتماعية كثيرة وأبرز طرق تعامل اجتماعي غائبة لكنها لم تكن عنصر شد الانتباه إلى المسلسل.
في النهاية باب الحارة خلق صنفا جديدا من الدراما أساسها الصدق والأداء المميز، المتقن، دراما بسيطة ولكنها قوية على مستوى صدق الأداء وهو العنصر الذي غاب في الكثير من الأعمال الدرامية الأخرى.
* كاتبة تونسية
العدد 1868 - الأربعاء 17 أكتوبر 2007م الموافق 05 شوال 1428هـ