العدد 1867 - الثلثاء 16 أكتوبر 2007م الموافق 04 شوال 1428هـ

أميركا وملف الأقليات في تركيا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل ترد الحكومة التركية على الهجوم الذي أقدم عليه حزب العمال الكردستاني وأسفر عن مقتل 15 جنديا في جنوب شرق الأناضول؟ الدلائل تشير إلى أن أنقرة غير قادرة سوى على الرد. فطبيعة الهجوم استفزازية وربما تكون الضربة القوية متعمدة حتى لا تترك أمام الحكومة الإسلامية المعتدلة سوى الرد على التحدي.

هذا الاحتمال يفتح الباب امام سؤال: لماذا قرر حزب العمال الكردستاني استئناف القتال ونقض توافقات وتعهدات سابقة أسفرت عن هدنة مؤقتة بين الطرفين؟ لابد من وجود قراءات تضع مجموعة احتمالات يمكن أن تساعد على تقريب جوانب معينة من الصورة. فالضربة القوية كانت مقصودة لاستفزاز الأتراك واستدراج الحكومة للرد. وإذا كان هذا هو القصد من إعادة تحريك الملف فمعنى ذلك أن هناك جهات دولية وإقليمية شجعت قيادة الحزب الكردي التركي على معاودة القتال.

الضربة لا يمكن أن تكون مجرد خطوة انفعالية قررتها حلقة ضيقة في الحزب أرادت التذكير بمشكلة. فلو كان هذا هو القصد لكان الهجوم متواضعا في أهدافه ولا يريد الإيذاء وإنما إرسال إشارة بسيطة إلى الطرف المضاد.

قوة الضربة التي أوقعت ضحايا كثيرة كان القصد منها منع القيادة التركية من السكوت وإجبارها على التفكير في الرد لاسترداد كرامة الجيش. وهذا الاحتمال إذا صح تكون الجهة التي قررت استئناف المعارك خططت سلفا لفتح جبهة عسكرية تتعدى الحدود. فمن هي الجهة صاحبة المصلحة في إثارة مشكلة ممتدة لا تقتصر تداعياتها على المساحة التركية؟

فرضيات كثيرة يمكن اعتمادها للكشف عن جوانب غامضة من الصورة. والفرضيات حتى تكون واقعية لابد من تعيين مكان الضربة. فالمكان يقع بالقرب من الحدود العراقية - التركية. وحزب العمال يتخذ من شمال العراق ذاك الملاذ الآمن لقيادته وقواته. وشمال العراق تسيطر عليه قوات «البشمركة» وحكومة كردية مركبة من ثنائية مسعود بارزاني وجلال طالباني. والمنطقة التي انطلقت منها المجموعة المسلحة لتضرب ضربتها تتمتع منذ العام 1992 بنوع من «الحكم الذاتي». ومنطقة الحكم الذاتي بدأت تتمتع بنوع من الاستقلال (الفيديرالي) منذ احتلال العراق في العام 2003.

كل هذه العناصر الواقعية تساعد على إعادة تركيب الصورة. الجانب الأول منها يشير إلى ملاذ آمن تتحرك قيادة وقوات حزب العمال الكردستاني في نطاقه وتتدرب فيه وتتسلح. الجانب الثاني يشير إلى وجود تعاون بين الحزب الكردي التركي والحزب الكردي العراقي تتمثل في المساعدات المالية والمعسكرات التي تؤهل المجموعات المسلحة للرد والمتابعة والتعقب ونصب الكمائن والإغارة والانسحاب. الجانب الثالث أن العراق ارض محتلة ولا توجد فيها دولة مركزية تمارس سيادتها على بلاد الرافدين وتراقب الحدود وتترصد حركة المسافرين أو المتنقلين بين البلدين. والجانب الرابع وهو الأهم أن الولايات المتحدة هي القوة المسئولية عن الأمن فهي احتلت العراق وأخذت قرارات عشوائية أدت إلى تقويض الدولة وتفكيك الجيش وانهيار العلاقات الأهلية في البلاد.

الجانب الأخير من الصورة يساعد على إلقاء مزيد من الضوء على الزوايا. فالولايات المتحدة (وربما حليفها «إسرائيل») هي الطرف الوحيد الموجود في شمال العراق وقواتها تتمركز في مجموعة قواعد وتراقب الحدود وتنظم حركة الدخول والخروج. وهذا الأمر يثير السؤال: هل قررت أميركا فتح باب خطير يتصل بملف الأقليات كما فعلت مذهبيا وطائفيا في العراق؟

السؤال ليس افتراء. فهو يستند إلى وقائعَ ميدانية سياسية باشرت واشنطن تنظيمها وترتيبها تباعا بعد احتلال العراق. وما حصل في بلاد النهرين من انهيار شامل للأمن والاقتصاد والعلاقات الأهلية ليس مصادفة أو خطأ غير مقصود. فالاحتلال تعمد أن يدفع البلد إلى هذا المستوى من الانقسام الطائفي والتفكك السياسي لتبرير إعلان دولة فيديرالية موزعة على ثلاثة أقاليم في الجنوب (حكومة شيعية) وفي الغرب (حكومة سنية) وفي الشمال (حكومة كردية). وشجع هذا الواقع الكونغرس الأميركي على طرح صيغة مشروع يعتمد تقسيم العراق إلى دويلات ثلاث في إطار جمهورية فيديرالية. وهذا ما أطلق عليه الرئيس الأميركي جورج بوش منذ البداية «النموذج». والنموذج الذي تبيّن لاحقا أنه المقصود ليس تنمية وديمقراطية وحقوق إنسان كما توقع بعض «النخب» العربية وإنما التفكيك والهدم والتخريب والتقويض والتمزيق. وهذا ما ظهر واقعيا في العراق وربما بدأت واشنطن تفكر في نقل التجربة وتعميم «النموذج» على دول الجوار حتى يتسنى لها السيطرة وتطويل وجودها العسكري في منطقة استراتيجية وحساسة وغنية بالنفط.

دور الولايات المتحدة

احتمال أن تكون قوات الاحتلال الأميركية على علم ومعرفة ودراية بالعملية العسكرية التي قام بها حزب العمال الكردستاني انطلاقا من شمال العراق ضد الجيش التركي ليس مستبعدا. فالعملية نوعية وتحتاج فعلا إلى تدريب وتجهيز وتخطيط ومعلومات دقيقة حتى تحقق مرادها وتنجح في تسجيل ضربة قوية لا تستطيع الحكومة الإسلامية تمريرها والسكوت عنها. وهذا النوع من الأفعال لا يمكن أن يحصل بقرار خاص تنفرد به مجموعة صغيرة أو حلقة ضيقة. حتى لو كانت العملية من نتاج حزب العمال الكردستاني وحده ومن دون مساعدة فإن رد فعل قوات الاحتلال والمجموعات الكردية المحلية لم يكن على قدر المسئولية. فالاحتلال وحكومة «كردستان» تعاملا مع الضربة الموجهة بخفة ولم يحركا ساكنا لمكافحتها أو منع تَكرارها. وهذا ما زاد من حنق حكومة أنقرة الإسلامية المعتدلة واستفزها وجعلها غير قادرة على التفكير إلا في الرد على الإهانة.

جوانب الصورة من زواياها الأربع تشير إلى أن ما حصل ليس مجرد خطأ غير مقصود وضربة موفقة لن تعاد. فالدلائل تؤكد أن الرسالة كانت قوية وواضحة ومبرمجة وأن الطرف الذي نفذها لم يتصرف من دون إشارة (تدريب وتجهيز وتشجيع) من القوة العسكرية التي تسيطر على الأرض وتتحكم في القرارات. والقوة ليست جماعة «البشمركة» التابعة إلى إدارة بارزاني فقط وإنما إلى تلك التي تستند إلى حمايتها منذ العام 2003.

توجيه الأصابع إلى الاحتلال الأميركي ليس تهمة تعتمد على فرضيات غير واقعية وإنما تهمة يمكن تعزيزها بالأدلة السياسية والأمنية الدامغة. فالضربة ترافقت مع توصية لجنة في مجلس النواب تعتبر أن ما حصل للأرمن قبل 92 سنة «حملة إبادة». وجاءت صحوة الضمير بعد تسلم عبدالله غول رئاسة الدولة العلمانية الاتاتوركية.

الضربة لم تكن تسديدة في الهواء ولم توجه نحو فراغ. فهي قتلت 15 جنديا داخل الأراضي التركية وفي وقت دقيق للغاية تمثل في احتكاك أطراف الدولة العلمانية بأطراف حكومة إسلامية في أنقرة؛ ما طرح احتمالات صدامات في الشارع ومواجهات في البرلمان وربما حركة عسكرية انقلابية يقوم بها الجيش كما فعل سابقا في محطات زمنية مختلفة. وهذا يفترض ضمنا أن القوة المحتلة في العراق قررت تحريك ملف الأكراد في سياق متزامن مع توصية النواب الأميركي بشأن ملف الأرمن. فهل هناك خطة لتصدير «النموذج العراقي» إلى تركيا مع تعديلات بسيطة تتماشى مع واقع بلاد الأناضول؟ الإجابة المنطقية لا تستبعد هذا الاحتمال. فتحريك ملف الأقليات في تركيا (أرمن وأكراد وعلويين) يشبه كثيرا تحريك ملف الطوائف والمذاهب والمناطق في العراق. وإذا كان ملف العراق له امتداداته الإقليمية برعاية دولية فإن ملف تركيا له أيضا امتداداته الإقليمية ولكنه بحاجة إلى رعاية دولية (أميركية) لتبريره وإنعاشه وتحريكه سياسيا وعسكريا داخل الحدود وخارجها.

ملف الأقليات في منطقة «الشرق الأوسط» خطير للغاية وهو لا يقتصر على تركيا والعراق وإنما ينتشر جغرافيا وبشريا إلى سورية وإيران وربما على امتداد «قوس الأزمات» من أفغانستان وباكستان إلى منطقة البلقان والمشرق العربي. وهذا الملف الخطير في حال استمرت الولايات المتحدة باللعب به وتحريكه من بعيد أو قريب فسيؤدي بالضرورة إلى إشعال نيران حروب أهلية متنقلة وعابرة للحدود. فهل تعبر قوات الجيش التركي الحدود وتدخل أراضي شمال العراق للثأر والانتقام من قيادة حزب العمال الكردستاني أم تكتفي حكومة أنقرة بالاحتجاج والاستنكار؟

المعلومات الأخيرة تشير إلى أن حكومة رجب طيب أردوغان الإسلامية قررت عدم السكوت والرد على الإهانة، وهي الآن بصدد مراجعة اللمسات العسكرية المطلوب تسديدها بعد أن يوافق البرلمان التركي على السماح بالتوغل لمطاردة عناصر الحزب الكردي.

القرار التركي ليس بسيطا باعتبار أن تداعياته إقليمية وليست محلية. فالهجوم يستند إلى قرارات وتفاهمات متوافق عليها مع العراق، ولكن دولة العراق لم تعد موجودة... وهذا يعني أن المواجهة السياسية المفترضة لن تكون مع بغداد أو أربيل أو السليمانية وإنما مع واشنطن مباشرة. فالأخيرة هي المحتلة والمسيطرة وهي الطرف الذي يتحكم في مفاتيح اللعبة ويدير زوايا الصراع. فهل تتقدم القوات التركية نحو ملاذ آمن ترعاه إدارة الاحتلال؟ الجواب يُعْرَف بعد أيام. ولكن هذا ليس السؤال. السؤال: في حال تقدمت تركيا داخل الأراضي العراقية فماذا سيكون الموقف الأميركي؟ السكوت أم استدراج أنقرة إلى معركة طويلة تكون مناسبة سياسية لفتح ملف الأقليات في دائرة إقليمية تتجاوز حدود شمال العراق؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1867 - الثلثاء 16 أكتوبر 2007م الموافق 04 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً