تبدأ اليوم في إيران قمة الدول المطلة على بحر قزوين. وسيحاول رؤساء الدول الخمس (روسيا وإيران وأذربيجان وكازاخستان وتركمانستان) التوصل إلى اتفاق بشأن ترسيم حدود البحر وتقاسم ثرواته من نفط وغاز.
تعتبر القمة حاسمة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه بعد العام 1991. وفي حال حسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تردده وترأس وفد بلاده تكون هذه الزيارة الأولى منذ العام 1975 حين قام الرئيس السوفياتي ليونيد بريجنيف بعقد قمة مع الشاه قبل 32 سنة.
زيارة الرئيس بوتين مهمة في الظروف الراهنة لأنها تأتي في وقت تشهد العلاقات الروسية - الأميركية بعض التوتر تحت سقف فضاء دولي يشير إلى وجود خطة غامضة تعتمدها واشنطن مع طهران. روسيا الآن بحاجة إلى إيران كذلك إيران بحاجة إلى روسيا. وتشكل الحاجة الثنائية نقطة اتصال بين دولة عظمى فقدت مواقعها وتريد استرداد حقوقها ودولة إقليمية كبيرة تواجه احتمالات حرب مع الولايات المتحدة.
الحاجة المتبادلة بين روسيا وإيران لا تعني عدم وجود خلافات بين موسكو وطهران بشأن الملف النووي وصفقات الأسلحة وتقاسم النفوذ على بحر قزوين.
النقطة الأخيرة مهمة لأنها تشكل أساس التفاهم بين الدولتين. فقبل انهيار الاتحاد السوفياتي توافقت طهران وموسكو على تقسيم سواحل البحر وثرواته مناصفة (50 في المئة لكل طرف)، ولكن تفكك الاتحاد عطل الاتفاق المبدئي وأعاد توزيع الحصص إلى نسب مئوية لكل دولة من الدول الخمس (20 في المئة). والآن تكافح إيران لضمان حصة 20 في المئة بسبب ظهور توجهات تريد تقليل النسبة إلى 15 و18 في المئة.
قمة دول بحر قزوين مهمة في كل المقاييس لأنها ستؤشر إلى وجود تفاهمات جديدة أو ستؤدي إلى توليد خصومات إقليمية تراهن واشنطن على اندلاعها حتى تتحرك لتأمين موقع لها في بحيرة عائمة على ثروة هائلة من النفط والغاز. ويقدر الاحتياط النفطي في قزوين بين 13 و15 بليون طن (200 بليون برميل) و600 بليون متر مكعب من الغاز وهو الثالث في العالم بعد سيبيريا ودول الخليج.
المسألة خطيرة على مستوى تأثيرها على التوازنات الاستراتيجية والإقليمية، ولذلك يتوقع أن يكون لهذه القمة شأنها في ترسيم حدود تقاسم النفوذ وحصة كل دولة من ثروة لا غنى عنها في ضمان مستقبل الاقتصاد الوطني وتطوره المستقل. وثروة قزوين تعتبر واحدة من الاحتياطات التي شكلت نقطة توتر في تسعينات القرن الماضي. وكادت هذه المسألة تعصف بالكثير من العلاقات لو لم تحصل هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. فالهجمات المذكورة قلبت المعادلة وغيّرت قواعد اللعبة الدولية حين أعطت للإدارة الأميركية تلك الذريعة للهجوم على المنطقة تحت ستار مكافحة شبكات الإرهاب.
بعد سبتمبر 2001 جرت في المنطقة سلسلة مواجهات وحروب انتهت بغزو أفغانستان (2001) وتحطيم سلطة ياسر عرفات وإعادة احتلال غزة والضفة بقيادة ارييل شارون (2002) واحتلال العراق (2003) والعدوان على لبنان (2006). وأدت هذه التطورات إلى إغلاق مؤقت لملف قزوين والصراع الدولي/ الإقليمي على ثروته. السكوت عن المسألة لا يعني أن الموضوع انتهى واستغنت الولايات المتحدة عن أطماعها في تقاسم الثروة. فأميركا أصلا خططت للحروب بذريعة مكافحة الإرهاب بهدف السيطرة على المنطقة وتطويق بحر قزوين بالقواعد العسكرية التي نجحت جزئيا في نشرها في دول آسيا الوسطى.
أهداف الولايات المتحدة لم تتغير حتى لو ظهرت ضعيفة في أفغانستان والعراق. فهذه الدولة تحركها شركات الطاقة ومؤسسات التصنيع الحربي وأسواق المال لذلك لن تكتفي برؤية المشهد من دون تدخل خارجي يعطيها نسبة من الإنتاج والتصدير والتكرير والاستهلاك.
قمة خماسية استثنائية
قمة دول بحر قزوين التي تبدأ اليوم أعمالها في إيران تعتبر استثنائية من حيث أهميتها لأنها أعادت فتح ملف أغلق مؤقتا بعد هجمات سبتمبر. فالقمة اعادت تذكير 120 شركة تعمل في قطاع النفط بخطورة هذه المنطقة التي تحتل مكانة خاصة في التوازنات الدولية بسبب ثرواتها وموقعها على خطوط التجارة (القديمة) وخطوط أنابيب النفط (الحديثة). وقزوين في هذا المعنى الاستراتيجي ليس مجرد بحيرة نفط وإنما يشكل ذاك الحد الفاصل بين آسيا وأوروبا (أوراسيا). ومن يسيطر عليه ينجح في القبض على ساحة يمكن أن تلعب في المستقبل دور قوة الربط بين الشرق والغرب كما كان حالها قبل الاكتشافات الجغرافية في القرن الخامس عشر الميلادي.
قمة اليوم ليست عادية لأنها بكل بساطة ستكون محطة في سياق مفاوضات وخلافات بين الدول الخمس. فهذه الدول دخلت في اتفاقات وتفاهمات منذ العام 1998 ساهمت في غموض الصورة نظرا إلى تشابك المصالح وتنافرها. ففي 12 مايو/ أيار 1998 عقدت الدول قمة في كازاخستان شاركت فيها باكستان وأفغانستان وتركيا واتفقت على تأسيس مصرف للتجارة والتنمية وتطوير شبكة المواصلات والاتصالات (إحياء طريق الحرير القديم). وفي 5 يونيو/ حزيران 1998 دخلت إيران مع أذربيجان في مفاوضات بشأن نفط قزوين وتصديره عبر أنابيب من ميناء نيقا إلى مصافٍ في طهران وتبريز. وفي 6 يوليو/ تموز 1998 وقعت روسيا وكازاخستان على اتفاق لتقاسم الاحتياط النفطي في شمال قزوين؛ ما اغضب إيران وتركمانستان وأرضى أذربيجان. وفي 7 يوليو 1998 اتفقت ثلاث دول (كازاختسان، أذربيجان، وتركمانستان) على تقسيم بحر قزوين إلى قطاعات قومية واعترضت إيران وروسيا على الاتفاق الثلاثي. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1998 عقدت تركمانستان وأذربيجان قمة في ميناء تركمانباشي لتسوية النزاع بشأن تقسيم حقول النفط والغاز بحضور وزير الطاقة الاميركي آنذاك بيل ريتشاردسون. وفي 16 فبراير/ شباط 1999 اعلنت أذربيجان انها ستطلب الانضمام إلى الحلف الأطلسي (الناتو)؛ ما اثار مخاوف روسيا فاتجهت نحو دعم أرمينيا عسكريا لمنع امتداد قوات الأطلسي إلى شواطئ قزوين. وفي 20 فبراير 1999 رفضت إيران الاتفاق الذي وقعته تركمانستان مع شركات نفط للإشراف على مشروع بناء خط أنابيب لنقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا. وفي 14 أغسطس/ آب 1999 باشرت كازاخستان التنقيب بإشراف كونسورتيوم يضم شركات ايطالية وبريطانية ونرويجية وأميركية وهولندية وفرنسية وبلجيكية. وفي 25 يناير/ كانون الثاني 2000 اتفقت أذربيجان وجورجيا على مشروع مدخط أنابيب لنقل نفط قزوين إلى ميناء جيهان التركي. وفي 23 مارس/ آذار 2000 أعلنت كبرى شركات النفط الروسية (لوك أويل) الانتهاء من حفر أول بئر في شمال قزوين، وقال بيان الشركة: «إن الاكتشاف يكتسب أهمية كبرى اقتصادية وجيوسياسية». وفي 21 أبريل/ نيسان 2000 دعا الرئيس بوتين إلى تحرك في حوض بحر قزوين لمواجهة النشاط المتزايد للولايات المتحدة ودول اخرى في المنطقة. وفي 1 يونيو 2000 أعلنت واشنطن رفضها التعاون مع إيران في المجال النفطي وجددت دعمها مشروع خط أذربيجان - تركيا. وفي 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2000 تفاهمت أذربيجان وجورجيا وتركيا على توقيع مدخط باكو - تبليسي - جيهان بإشراف أميركا وبريطانيا والنرويج واليابان. وفي 28 نوفمبر 2000 حذرت إيران من أخطار الوجود العسكري الأميركي - الإسرائيلي في بحر قزوين. وفي 23 يوليو 2001 حذرت وزارة النفط الإيرانية شركات النفط الأجنبية من العمل مع دول أخرى في مناطق من بحر قزوين، وجاء التحذير بعد مباشرة شركة نفط بريطانية نشاطها في مياه متنازع عليها. وفي 5 أغسطس 2001 أعلن الرئيس الآذري آنذاك حيدر علييف اجتماعا رباعيا سيعقد في خريف تلك السنة لدرس تقسيم ثروات قزوين برعاية روسية ومن دون مشاركة إيرانية. واحتجت طهران على القمة الرباعية وطالبت الرئيس بوتين بتوضيح مدى استعداد موسكو للمشاركة في قمة استبعدت منها. وتصحيحا للعلاقات أعلن في 24 أغسطس 2001 أن الدول الخمس المطلة على قزوين باشرت مشاورات استعدادا لقمة ستعقد في عاصمة تركمانستان (عشق آباد) في اكتوبر 2001. وفي 29 أغسطس 2001 توقعت روسيا ألا تتوصل الدول الخمس إلى اتفاق مشترك بسبب تدخل أميركا وتركيا لمصلحة أذربيجان. وفي 30 أغسطس 2001 كثفت إيران اتصالاتها مع روسيا لاحتواء الأزمة والحد من التدخل الأميركي - التركي الداعم لأذربيجان. وفي 8 سبتمبر 2001 تخوّفت إيران من تدويل بحر قزوين وجددت رفضها أي تدخل أجنبي وانتقدت محاولات واشنطن عزلها عن دول حوض قزوين. وفي 10 سبتمبر 2001 أكدت إيران حقها في امتلاك 50 في المئة من مياه قزوين، ولكنها أبدت استعدادها للتفاهم وقبولها بنسبة 20 في المئة من ثروة البحر بهدف تعزيز التعاون مع دول المنطقة الخمس. وفي 11 سبتمبر 2001 وقعت «هجمات سبتمبر» فانقلبت زوايا الصورة واستغلت إدارة جورج بوش الضربة لتبدأ سياسة تعديل اللعبة الدولية وتأسيس قواعد جديدة للصراع على ثروة حيوية في بحر قزوين.
هجمات سبتمبر أسست جدول أعمال للولايات المتحدة وأعادت رسم أولويات جديدة بذريعة مكافحة الإرهاب. وبسبب هذا الهجوم الأميركي الاستراتيجي اقفل ملف قزوين مؤقتا بعد احتلال أفغانستان والعراق وتوقيع اتفاقات أمنية بين واشنطن وبعض دول حوض قزوين.
الآن عاد الملف للظهور مجددا بعد أن جمد البحث في أوراقة لمدة ست سنوات. واليوم تعقد قمة في طهران بحضور الدول الخمس في وقت تشهد المنطقة تنافسات ثنائية وتحالفات إقليمية ودولية. فموسكو نسقت مواقفها مع كازاخستان، وإيران تفاهمت مع تركمانستان وتركيا تدعم أذربيجان لمد خط أنابيب إلى أراضيها. والشركات الأميركية والأوروبية تراقب وتترصد المناسبة. فهل تنجح الدول الخمس في تنظيم علاقاتها وترسيم حدودها وتقاسم الثروات بالتساوي أم سيشهد حوض قزوين اضطرابات سياسية وأمنية تشبه تلك التطورات التي سبقت هجمات سبتمبر وأدت إلى تغيير قواعد اللعبة الدولية؟ المسألة خطيرة فهي تتجاوز في أبعادها المصالح الإقليمية. فثروة قزوين هائلة وشركات النفط والغاز تنتظر منذ عشر سنوات اللحظة للبدء في تعديل زوايا الصورة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1866 - الإثنين 15 أكتوبر 2007م الموافق 03 شوال 1428هـ