هناك موجة تصحيح أخذت تجتاح أوروبا وأميركا لمواجهة تداعيات الأزمة المالية التي دقَّت أبواب دول الخليج العربية وأنزلت خسائر كبيرة في أسهم البورصات. موجة التصحيح جاءت متأخرة لكنها أصبحت ضرورية بعد أن انكشفت الأسواق المالية وأظهرت آليات السوق صعوبات بنيوية لا تستطيع معالجة نفسها تلقائيّا ومن دون تدخل من الدولة.
تدخل الدولة في اللعبة وتعزيز دورها في حماية المواطن والمساهمة في تخطيط مشروعات التنمية تعتبر خطوات إجرائية لمنع انفلاش الأزمة وتهديدها للاستثمارات والودائع. وهذا ما بدأت الولايات المتحدة به حين وافق الكونغرس على ضخ مليارات الدولارات في قنوات الاقتصاد وشركات المال والمصارف لحماية المؤسسات من الانهيار. كذلك اتخذت بريطانيا سلسلة إجراءات لتعويم أسواق المال وحماية الودائع وشراء السندات العقارية لضمان حياة الناس وتأمين ودائعهم من التبخر.
الإجراءات الإدارية والاقتصادية والمالية التي بدأت الولايات المتحدة وأوروبا باتخاذها منذ انهيار الأسواق في سبتمبر/ أيلول الماضي تمهيدا لعقد القمة العالمية الثانية (20 دولة) في أبريل/ نيسان المقبل تشير إلى بدء نمو قناعات سياسية في العواصم الدولية تفكر بإعادة النظر في مفاهيم ايديولوجية اكتسحت العقول في العقدين الماضيين.
القراءة جاءت متأخرة إلا أنها تدل على وجود توجه يطمح إلى إعادة برمجة تلك المفاهيم وضبطها تحت قواعد تمنع تجدد الانهيارات في المستقبل. فالرئيس الأميركي المنتخب سارع إلى تسمية الفريق الاقتصادي الذي سيعتمد عليه خلال فترة ولايته وذلك بهدف تطمين المواطن (الناخب ودافع الضرائب) والحد من قلقه. واختيار باراك اوباما مجموعة من الأسماء المعروفة التي اشتهرت بنجاحها في عهد بيل كلينتون جاء ليؤكد أن أولوية اهتمامات الرئيس تنصب الآن على الاقتصاد وتأمين فرص العمل للملايين. كذلك جاءت خطوات رئيس الحكومة البريطاني غوردن براون لتعطي المزيد من جرعات التطمين بعد أن تفاقمت الأزمة المالية وكادت أن تطيح بعشرات المؤسسات لو لم تتدخل الدولة في اللحظات الأخيرة وتضخ المليارات لإنقاذ المصارف وشركات العقارات من التفكك والانهيار.
موجة التصحيح هذه لم تقتصر على بريطانيا وأميركا وإنما شملت مختلف الدول الأوروبية والآسيوية التي سارعت إلى التدخل لوضع حد للانهيار المالي. فهناك حكومات تكفلت حماية الودائع. وحكومات حقنت القنوات الاقتصادية بالمليارات لإنعاش الأسواق والمحافظة على نسبة النمو. وحكومات خفضت الضرائب على الدخل. وحكومات قلصت من نسبة الضريبة الجمركية. وحكومات أطلقت مشروعات بهدف تعزيز حركة الأسواق. وبعض الحكومات وعدت بإعادة النظر في الضريبة المضافة على الاستهلاك (V.A.T) لتوفير السيولة والتشجيع على الشراء والتسوق.
كل هذه الإجراءات تؤكد ظهور وعي مضاد يخالف تلك النظريات العشوائية التي بالغت في ترويج مفاهيم «الأسواق الحرة» و«التجارة الحرة» و«آليات السوق» و«النظام التلقائي» و«منع الدولة من التدخل» ورفض «التخطيط الاقتصادي» وإلغاء «أنظمة الحماية» وترك «السوق يصحح تلقائيّا آلياته». فهذه المفاهيم التي ارتقت في بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى مستوى «القداسة» وارتفعت في بعض الجامعات والأكاديميات إلى درجة «المحرمات» انهارت فجأة مع انهيار أسواق المال وتحولت إلى بضاعة قابلة للنقاش والتفاوض والبيع وربما تخزينها في ملفات وإيداعها في مستودعات إيديولوجية إلى جانب الكثير من النظريات التي تساقطت بفعل التقادم وتطور الزمن.
العالم الآن يعيش تداعيات هزيمة ايديولوجية «النظام التلقائي» بعد أن شهد سابقا هزيمة ايديولوجية «نظام التوجيه المركزي» في تسعينات القرن الماضي. فالفكر الاشتراكي الذي تلقى ضربة موجعة قبل أكثر من عقدين وتراجع دوره إلى درجة الانغلاق في مستوعبات التاريخ لم يعد الطرف الوحيد المهزوم في المعركة بعد أن تعرضت أهم نظرية في الفكر الرأسمالي لضربات مؤذية.
النظام التلقائي
نظرية «النظام التلقائي» تعتبر المتضرر الايديولوجي الأكبر من أزمة السوق المالية لأنها لعبت الدور المفصلي في الترويج لمقولة الآليات المستقلة عن الرقابة والتوجيه والتدخل. وأبطال النظرية ساهموا في منع الإدارة الأميركية الحالية من التدخل لإنقاذ شركات المال والمصارف والعقارات بذريعة أن آليات السوق تتكفل بالحماية من دون برمجة وتخطيط. وعدم التدخل شكل المدخل الآلي للانهيار ما أدى إلى تفكك السوق وتشققه وانسياب أموال الودائع وانجرافها في الأودية من دون رادع أو ضابط ينظم حركة مرورها.
الآن وبعد وقوع الكارثة تحركت الدول الأوروبية والآسيوية بالتعاون مع أميركا لتعيد بعض الاعتبار إلى مفهوم «التدخل» ضاربة بعرض الحائط كل النصائح المسمومة التي أطلقها تيار «النظام التلقائي» الذي لايزال يتمسك بآليات السوق ويرفض «الحماية» ويستنكر كل الاتجاهات التي تتحدث عن «التخطيط» و«البرمجة» و«الإشراف» و«الرقابة» و«الرعاية» بذريعة أنها مفردات «عقلانية» مضادة للطبيعة وانسجامها العفوي وتطورها الآلي.
هذا التيار الاقتصادي (الرأسمالية العفوية) الذي حظي بالعطف والاحترام والتقدير من قبل الدول الأوروبية وأميركا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي أسّس نظريته عن «السوق» بناء على كتاب آدم سميث عن «ثروة الأمم». فهذا المنظِّر الاقتصادي الذي توفي في نهاية القرن الثامن عشر أسّس فلسفة «السوق» ودور المستهلك في ضبط حركة الإنتاج. برأيه السوق هو أساس الاقتصاد وليس الإنتاج، وهو يبتدع تلقائيا آليات تصحح حركة التبادل ضمن قوانين التعادل والتعاون وتقسيم وظائف العمل.
نظرية سميث تعرضت للنقد في القرن التاسع عشر لكنها صمدت في مواجهة الضربات إلى أن عاد تشارلز داروين إحياء بعض جوانبها حين استخدمها لتبرير نظرية «أصل الأنواع» أو ما عرف لاحقا بفلسفة «النشوء والارتقاء». وشكلت فلسفة داروين البيولوجية ذاك المدخل الإطاري لإعادة إنعاش نظرية السوق وتطورها آليّا (عفويّا) من دون تدخل أو تخطيط أو برمجة.
استخدمت نظرية آليات السوق قوانين الطبيعة لتبرير نموها وتطورها الذاتي (العفوي). داروين في فلسفته تحدث عن «الانتخاب الطبيعي» أي أن الطبيعة تمتلك آليات خاصة بها للاختيار وهي تقرر في النهاية الصالح والرديء وتختار بين القوي والضعيف وليس هناك من ضرورة للتدخل حتى لا تتعطل الآليات وتدب الفوضى ويتداخل الجيد بالفاسد.
انطلاقا من نظرية الطبيعة تتكفل بالاختيار والانتخاب أعاد فلاسفة اقتصاد السوق إنتاج مفهوم «النظام التلقائي» حتى تطور إلى مدرسة مستقلة قادها الفيلسوف الاقتصادي فريدريك هايك في أربعينات القرن الماضي. واستمر هايك يطور فكرته اعتمادا على منتوجات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى أن نجح في ستينات القرن الماضي في تأسيس تيار اقتصادي يرفض بشدة التدخل والتخطيط والتوجيه باعتبارها تعطل آليات الطبيعة وقوانين الحياة العفوية.
شكل مفهوم «النظام التلقائي» خطوة فلسفية لتطوير النزعة الرأسمالية - الليبرالية ودفعها بقوة إلى واجهة الاقتصادات الدولية فأخذت بعض الحكومات الأوروبية بها كذلك تحولت إلى قوة ايديولوجية تعتمدها الإدارة الأميركية في سياساتها المالية والتجارية الداخلية والخارجية. واستمر الوضع «الآلي» على ما هو عليه إلى أن انهارت السوق المالية لتجرف معها نظرية «النظام التلقائي».
الآن هناك موجة تصحيح أخذت تجتاح العقول الاقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا وبدأت تأخذ حقها من خلال تلك الإجراءات والخطوات والقرارات التي أعلنتها واشنطن والعواصم الدولية والآسيوية. وفي حال تواصلت تلك الموجة واستكملت سياسة التصحيح والتعديل والضبط والرقابة ستتلقى نظرية «النظام التلقائي» ضربة ايديولوجية لا تقل عنفا عن تلك الضربات التي أسقطت نظرية «النظام المركزي» و«الاقتصاد الموجه».
الاقتصاد العالمي بدأ يدخل منذ نحو الشهرين محطة انتقالية تجمع بين «المركزية» و«التعددية» أو بين «الموجه» و«التلقائي». وهذا يعني ايديولوجيا أن هناك خطوة تصالحية في المدى المنظور بين حركة الإنتاج وآليات السوق. فهل تنتهي الأزمة المالية بمعادلة اقتصادية في المدى غير المنظور أم تتواصل الموجة التصحيحية إلى أن يعيد «النظام التلقائي» اكتشاف آليات جديدة؟ هناك تحديات كبيرة تحتاج إلى عقول خلاقة لتلبي حاجات عصر تجاوز الكثير من النظريات التي أنتجت في محطات زمنية سابقة. التحديات التي أطلقتها أزمة الأسواق المالية صعبة والجيد الوحيد من كل سلبياتها أنها ساهمت في توليد حاجة إلى التفكير بمعادلة اقتصادية جديدة تتجاوز آفاق «النظام الموجه» و«النظام التلقائي».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2273 - الثلثاء 25 نوفمبر 2008م الموافق 26 ذي القعدة 1429هـ