الصحافة المستقلة والمسئولة هي سر عظمة الأمم المتقدمة في العصر الحديث، وهذه النتيجة يمكن إثباتها بالرجوع إلى حقيقة أن أكثر البلدان تقدما ورقيا هي تلك التي تفسح المجال لحرية الصحافة. ولكننا أيضا نعلم أنه لا وجود لحرية مطلقة، إذ إن هناك ضوابط ووسائل تحتاجها المجتمعات كافة من أجل تنظيم المهنة. والاختلاف هو في فهم طبيعة مهنة الصحافة قبل وضع الضوابط.
من المقبول به أن الصحافة يجب ألا تكون وسيلة لقذف الآخرين والتعدي على خصوصياتهم، كما أن الصحافة يجب ألا تعتدي على حقوق الملكية الفكرية، ولا تخترق أيا من الحقوق الإنسانية المشار إليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين والاتفاقيات الأخرى المعنية بمكافحة التمييز ضد الناس لأسباب مختلفة، ومنع التمييز ضد المرأة، ومنع التعذيب، وحفظ حقوق الطفل، وغيرها من الحقوق المفصلة بشكل واضح. والصحافة يجب أن تراعي المصلحة العامة وألا تكون وسيلة لتغيير النظام الدستوري، كما أن عليها أن تراعي الذوق العام وعادات المجتمع وتقاليده وأعرافه.
ولكن المهمة التي يجب ألا تغيب عن البال هي أن الصحافة المستقلة والمسئولة هي أساسا سلطة مراقبة، تكشف للمواطنين قضايا تهمهم، وهي وسيلة ناجعة لإحداث التوازن بين من بيده السلطة ويصدر القرارات، وبين من يتوجب عليه تنفيذ القرارات. فالمواطن قد يكون ضحية لقرارات دكتاتورية أو قد لا يعلم ماذا يجري بالمال العام، وهنا يأتي دور الصحافة النزيهة التي تدافع عن حقوق المجتمع، وفي الوقت ذاته تلتزم بالثوابت الوطنية وبالحقوق الإنسانية.
إن الصحافة تحتاج إلى قانون يؤمن بدورها الحيوي، تماما كما أن لمهنة الطب دورا حيويا لا يمكن الاستغناء عنه. والطبيب الذي يمسك المشرط ويسيل دم شخص ما لا تتم معاقبته، لأن من واجبه أن يباشر إجراء عملية ما لإنقاذ حياة الشخص. ولكن لو ثبت أن طبيبا ما استخدم المشرط لقتل أحد الأشخاص المختلفين معه (بدلا من معالجته) فإنه يطبق عليه قانون العقوبات تماما كما يطبق على أي قاتل يسلب الحياة من شخص آخر... والفرق بين الحالتين واضح، وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على الصحافي. وفي حال الطبيب لا يوجد قانون ينص على أن أية حركة يقوم بها أثناء تأدية واجبه يمكن أن تحال إلى النيابة العامة للتحقيق فيها، ولو حدث ذلك لاختفى الأطباء وهربوا من المهنة... والأمر ذاته ينطبق على الصحافي، إذ لا ينبغي أن تسلط عليه مواد قانونية تحيله ببساطة إلى النيابة العامة في كل صغيرة أو كبيرة، ولو أفسحنا المجال لمثل هذا الأمر فإن مهنة الصحافة - بمعناها الحقيقي - تختفي أيضا.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 2273 - الثلثاء 25 نوفمبر 2008م الموافق 26 ذي القعدة 1429هـ