الصديقة سوزان كولن ماركس، ناشطة سلام عالمية من جنوب إفريقيا، كتبت قبل سنوات قليلة كتابا بشأن تجربة انتقال جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية، وعنونت الكتاب «مراقبة الريح» (Watching the Wind) وجرى ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، وهو كتاب يستحق القراءة. وأهمية الكتاب أنه يجيب على سؤال شغل بالي لبعض الوقت: كيف انتهى نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا سلميا؟
وترصد لنا سوزان في كتابها كيف أن روح وثقافة شعب جنوب إفريقيا لعبا دورا مهما، إلى جانب أمور أخرى، في جعل تلك النقلة السلمية ممكنة. فتحدثنا عن ثقافة وروح الـ «أوبونتو»، كما تُسمى بالكزوسا والزولو (Xhosa and Zulu) وتعني «الناس هم ناس من خلال الناس الآخرين». وتستند الأوبونتو في فلسفتها إلى فكرة، كما شرحها رئيس الأساقفة ديزموند توتو في الكتاب، «أن إنسانيتي معلقة بإنسانيتك بشكل لا يمكن انتزاعه. وعندما أجردك من إنسانيتك فإنني أجرد نفسي من إنسانيتي من دون منازع، فالإنسان الذي يعيش فقط لنفسه هو شيء يتناقض مع الإنسانية».
وتعبر هذه الثقافة عن نفسها بحسن الضيافة والاهتمام بالآخرين والرغبة في بذل الجهد من أجل مساعدة الآخرين والتسامح، كما تشرح سوزان في كتابها. كما أن هذه الثقافة تبقي الأبواب مفتوحة وترحب بالجميع وترفض الإقصاء، وهذا ما ساعد سكان جنوب إفريقيا على الوصول إلى حلول وسط عملية تركز على إنهاء النظام العنصري وليس الانتقام، حل يأتي من دموع الناس وهي تروي حكايتها بينما تهيئ المشهد والرأي العام للغفران والانطلاق إلى المستقبل. فعندما يلتقي سكان جنوب إفريقيا فإنهم يحيون بعضهم بعضا ليس بعبارة «كيف حالك؟» ولكن بعبارة «احكي لي قصتك!» وهذا ما كرس ثقافة ترى أهمية في الإنصات إلى قصة الآخر.
ورأيت وأنا أقرأ عن الأوبونتو ذلك التشابه بينها وبين ثقافتنا العربية، أكان ذلك في أن الناس يرون أنفسهم من خلال الآخرين أو في عدم ترددهم في مساعدة الآخرين، وتتجسد هذه الثقافة العربية بقصة الفارس العربي حاتم الطائي - الكريم المضياف مضرب المثل في التضحية. ولعلنا اليوم بأمس الحاجة إلى إحياء تلك الروح والثقافة إذا ما أردنا أن نتخلص من ذلك العنف والعبث اللذين يسيطران على المشهد في الشرق الأوسط، «فالإنسان الذي يعيش لنفسه هو شيء يتناقض مع الإنسانية». والإنسان الذي لا ينصت لقصة الآخر لا يستطيع إسماع قصته للآخرين.
ودخلت الأوبونتو إلى قطاعي الأعمال والأكاديميا في جنوب إفريقيا، «ففي 1994 قامت شركة طيران جنوب إفريقيا بإعادة بناء وهيكلة الشركة على أساس قيم الأوبونتو، وشنت حملة تسويقية من أجل الظهور كشركة تهتم بركابها انطلاقا من روح وثقافة الأوبونتو». ولعلنا بحاجة اليوم إلى إحياء الروح العربية القريبة من فلسفة الأوبونتو وإدماجها في المفاهيم الإدارية التي تحكم مؤسساتنا وشركاتنا.
وفي العالم هناك من يستخدم الفن والموسيقى ليسرد لنا قصة الآخرين فننصت إليها فتناشد إنسانيتنا وتولد عندنا تلك الرغبة في مساعدة الآخرين. ومن الأمثلة على ذلك فيلم «فندق رواندا» (Hotel Rwanda)، للممثل المتألق دون شيدل والذي أنتج في العام 2004، والذي يلقي الضوء، من خلال قصة حقيقية، على سكوت العالم عن تلك المجزرة الرهيبة التي أودت بحياة ما يقرب من نصف مليون رواندي في شهرين في 1994، ليس بأسلحة دمار شامل وإنما بالسكاكين والأسلحة النارية الفردية.
كما يروي الفيلم كيف يمكن أن تتحول هوية الفرد إلى سلاح قاتل، وفي هذه الحالة قبيلتا الهوتو والتوتسي، وهو الأمر الذي شرحه الكاتب اللبناني أمين معلوف في كتابه المهم جدا «الهويات القاتلة». ورواندا من أجمل دول العالم، كما شرح لي أحد الأصدقاء الذين عملوا هناك والذي كان يصفها بقطعة من الجنة، وفيها بحيرة من أجمل بحيرات العالم «بحيرة فيكتوريا» والتي تم انتشال أربعين ألف جثة منها أثناء تلك المجزرة وكما يبين الفيلم. لقد ساهم الاستعمار والهويات القاتلة ولامبالاة المجتمع الدولي والصراع على السلطة في إنتاج تلك المأساة...
كما أن الموسيقى يمكن لها أن تلعب دورا في إسماع قصص الناس ومساعدتهم، خصوصا إذا كان يقف وراء العمل فنانون لهم شعبية كبيرة. ومثال على ذلك مغنية الروك الأميركية المشهورة أليشيا مور (Alecia Moore)، ففي أحدى أغانيها، وهي أغنية «عزيزي الرئيس» ترفع صوت الشعب بطرح اسئلة صعبة تتعلق بقضايا اجتماعية - اقتصادية وسياسية ملحة كالحرب والتشرد، والأشخاص الذين لديهم فرصة اقتصادية، ومع أن أليشا قد لا تدرك على الأرجح طبيعة ذلك، فهي تدعو الى روح أوبونتو حين تغني «عزيزي السيد الرئيس، كيف تنام بينما بقيتنا يبكون وكيف تحلم حين لا تتمتع أم بالفرصة لتقول وداعا؟
وهناك أغان تتحول مع الزمن إلى تراث مثل أغنية سنتجاوز المحنة (We Shall Overcome) التي تحولت إلى نشيد لحركة الحقوق المدنية في أميركا، ووجدت طريقها بعد ذلك إلى جنوب إفريقيا أثناء تحولها السلمي إلى الديمقراطية. وفي العام 1996 غنتها ديانا روس في بودابست بطريقة أوبرالية رائعة.
العالم بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى روح وثقافة الإنصات إلى قصة الآخر ورؤية الذات من خلال الآخرين وبذل الجهد لمساعدة الآخرين والتشارك معهم في رحلة الحياة. وإن ترجمة تلك الروح إلى موسيقى وأدب وطريقة حياة... تساعد على التقليل من آثار الحروب والصراعات المدمرة وتتيح المجال للتوصل إلى حلول سلمية لها.
لقد بدأت تلك الصور الدموية والعنيفة التي تقتحم حياتنا اليومية، هنا في الشرق الأوسط، من خلال النشرات الإخبارية المتلفزة تخيفنا وتقلقنا. ولعل الحل يكمن في كتاب أو أغنية أو فيلم أو قصيدة أو مسرحية تشترك في قصصنا... وعند أهل أوبونتو الخبر اليقين.
*يقيم في عمّان ويتخصص في الإعلام وحل النزاعات،
والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1864 - السبت 13 أكتوبر 2007م الموافق 01 شوال 1428هـ