لم تعد لغتنا بجوهرها النفيس وعظمتها تحوز ذلك الاهتمام المفترض لدى الكثيرين منا. البعض منا لا يعترف إلا بلغة أخرى يتعلمها أبناؤه، والبعض لم يعد يقرأ بلغته الأم ويرى في إمساكه لكتاب أجنبي مدعاة للوجاهة والمكانة الرفيعة. البعض لم يعد يرى في لغته الأم سوى كلمات التداول المحكية، بل لقد أصبح البعض - حين يتحدث - ينطق لفظة إنجليزية بين كل كلمة عربية وأخرى. والكارثة أن عدد المتمكنين من اللغة العربية وقواعدها يتضاءل شيئا فشيئا. أما أبناؤنا فهم يكتسبون لغة ممسوخة فيما يحكون وما يكتبون. تخلى الكثيرون - وبشكل فاجع - عن قواعد اللغة وأسس كتابتها، ولعمري كم يئن اليوم سيبويه وأبو الأسود الدؤلي وغيرهما من واضعي أسس وقواعد لغة العرب في قبورهم هاتفين: يا لهذا الجحود! يا لهذا التجني!...
مع تردي وضع لغتنا الأم يمكن ملاحظة تردي وضع ومدلول كلماتها وحروفها. الكلمة في اللغة العربية إما اسم أو فعل أو حرف، والحرف مُكَوِنٌ لغوي مهم في العربية لا يستغني عنه تركيب ومضمون الجملة. لكن الحرف لا يحمل معناه ولا تتحدد قيمته إلا برفقة غيره من الأسماء أو الأفعال، لذا يعرِّف اللغويون الحرف بأنه «كل ما لا يظهر معناه إلاّ معَ غيره»، وذلك في إطار بنية الجملة باللغة العربية. وعليه فالحرف يكوِّن مع الاسم والفعل أقسام الكلمة العربية، ولا معنى للحرف إن جاء - في سياق الحديث - منفصلا عن أحد رفيقيه.
أما في واقع الحال اليومي فقد انعكست الصورة، حيث أصبحت بعض الحروف هي التي تفعل فعلها وتجر وراءها الأسماء والأفعال. هناك حروف تخطت في ذهنية الناس - بمجتمعاتنا الخليجية على وجه الخصوص - بنيتها اللغوية ومعناها في الجملة العربية، واكتسبت موقعا وقيمة يحققان المكانة والرفعة في المجتمع ما جعل الكثيرين يلهثون سعيا للانتساب لتلك الحروف.مَنحت بعض الحروف من المزايا والخصال ما يرتجيه صاحبها من موقع اجتماعي ووجاهة وسلطة وتأثير، وأصبح للحرف سطوة تنحني لها الرؤوس وبريق يشحذ الهمم ويفجر الطموحات. بريق يشد ويجذب، ولا ضير - لدى البعض - إن كان المسلك باتجاه ذلك البريق سويا، خاطئا أو شريرا.
حديثنا ليس معنيا بكل حرف، بل بحروف معينة تبدأ بالألف وتمر بالباء، فالدال حتى تصل الواو. تشغلنا استخداماتٌ للحرف نراها تحقق الوجاهة والمكانة وهو في حقيقته مجرد حرف في اللغة لا أكثر. غدونا مفتونين ببعض الحروف نلصقها بأسمائنا وألقابنا وعائلاتنا أو نقدم بها أنفسنا ونتوسلها لبلوغ أهدافنا ومرامينا. دخل غالبنا هذه اللعبة من أعلى الهرم حتى أسفله إن على الصعيد الرسمي أو على الصعيد الأهلي. سيطر بريق الحروف بسطوته حتى على نخب واعية وقيادية ومثقفة. نبدأ بالألف التي تتبدى ويزداد بريقها حينما تضاف لها اللام في اسم العائلة. دخول اللام عليها يجعل بريقها يومض آخذا الأبصار والأسماع. ألقاب الناس باتت تتغير وأسماء عائلاتهم دخلت عليها «الإل» فغدت في -عرف العقول الفارغة - معيارا للوجاهة. بات العاقل يتساءل: منذ متى أصبحت العائلة الفلانية تحمل اسم «القانع»، فلم يعرفها المجتمع سوى بعائلة «قانع». ومنذ متى أصبحت العائلة الفلانية تحمل لقب «آل الطالع»، فلم تُعرف طوال تاريخها في المجتمع سوى بعائلة «طالع».
فوق ذلك، فالباء مضافا لها النون اقتحمت سبق الوجاهة، أصبح لفظ البنوّة (بن، بنت) معيارا للمكانة والوجاهة الاجتماعية. لم تعرف البلاد والعباد سوى أن ذلك الرجل يدعى «سلمان سالم»، فكيف بين ليلة وضحاها تغير اسمه ليصبح «سلمان بن سالم». ولم تعرف البلاد والعباد أن تلك المرأة تدعى «سليمة سالم» فكيف بين ليلة وضحاها تغير اسمها ليصبح «سليمة بنت سالم». ما البريق الذي أضفاه «بن وبنت» على الاسمين؟! الكل يعرف أن سلمان هو ابن سالم وسليمة هي ابنة سالم، فما القصد من هذه الفذلكة الفارغة التي تأخذ حشفة اللغة وقشرها وتترك روعة لُبها.
وإن تحولنا للدال فسنلاحظ كيف أصبح مبهجا ومدعاة للفخر لدى البعض أن يُكتب اسمه مسبوقا بحرف الدال متبوعة بنقطة ليقال: الدكتور فلان. في مجتمعات الظاهر على حساب الباطن تجاوز مدلول الدال حد التخصص في مجال علمي معين ليسبغ على صاحبه سمات العارف بكل شيء غزير الثقافة واسع الاطلاع المتمكن من سوق الرأي الأصح في كل حقل. المحيط المجتمعي حوّل البعض وبقدرة قادر إلى خبراء في كل مجال، لا يُشق لهم غبار، يُدعَون ويُستدعَون في كل أمر عصيب. أصبح للدال أمام اسم فلان بريق ساحر يخطف الأبصار وتهافتَ وسائل الإعلام والصحافة ودوائر اتخاذ القرار. كلٌ يطلب الرأي السديد الذي لا تمنحه سوى الدال، أليست الدال هي جسر العبور لأعلى مراتب المعرفة والحكمة والرأي السديد؟! أليست الدال هي الطريق الممهد نحو المنصب والكرسي؟! كل ذلك في حين أن المكانة والقيمة المجتمعية تحققت للبعض سهلة رخيصة مجرورة بدال لا أكثر.
حيازة درجة الدكتوراه تتأتى بعد جهد بحثي رصين يُبذل في جزء من تخصص علمي أو في جانب معرفي محدد. لكن الحال قد يبلغ تخوم المأسوية إن حاز أحدهم هذه الدال مقابل مال دُفع أو بمقايضة خدمة قُدمت. ذلك لا يعني انعدام أولئك النفر الذين لا تهزهم الدال حين تسبق أسماءهم، فلا هم معنيون بوجودها ولا يصرون على مناداتهم بها. هم مشغولون بطلب العلم من المهد إلى اللحد، منغمسون في اطلاعهم الواسع المتشعب، مهمومون بعطائهم لمجتمعهم الذي لا تحده دال أو أكثر من دال. هؤلاء هم الذين لا تشكل الدال في حياتهم هاجسا للوجاهة والبروز والصعود، بل علما ومهارات معرفية للمجتمع عليهم حق الإفادة منها.
ونبلغ «الواو»، واو الواسطة ومفتاح السحر الذي يشرع أبواب الجنة، من يقبض بيده منكم على مفتاح «الواو» فالطرق أمامه سالكة لتحقيق ونيل كل ما يبتغي من توفير سكن وعمل وعلم وعلاج، وربما بلوغ منصب وموقع وثروة. وكلما تيسرت للمرء «واو» قوية نافذة تهيأ له ولأسرته أن يختاروا ما يشاءون من فرص الحياة ومباهجها وسبل رغدها. ومن منكم بلا «واو»، فليرم بنفسه في قائمة المحرومين، من لا يملك «الواو» أو لا يطولها ولا يعرف مسالكها، فليظل يراوح في مكانه. وما المشكلة في أن يزيد محدودو الدخل أو الفقراء نفرٌ أو اثنين!. أما الكارثة الكبرى التي حلت بنا فهي أن ثقافة «الواو» ومساربها أصبحت ثقافة مجتمعية عامة ومسلكا حياتيا نمقته جميعا، نعلن رفضه جميعا، لكننا - في الآن ذاته - نجد أنفسنا نقترفه جميعا.
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1863 - الجمعة 12 أكتوبر 2007م الموافق 30 رمضان 1428هـ