العدد 1863 - الجمعة 12 أكتوبر 2007م الموافق 30 رمضان 1428هـ

تركيا وضربة الكونغرس الاستباقية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

النص الذي تبنته لجنة نيابية في الكونغرس الأميركية بغالبية 27 ضد 21 صوتا ضد ما أسمته بالإبادة التركية ضد الأرمن في العام 1915 يجب وضعه في الإطار الزمني لفهم تلك الإشارات السياسية التي أرسلت ضد «الحكومة الإسلامية» في أنقرة. فالنص يعترف بحصول مجزرة قبل 92 سنة ضد أقلية عرقية - مسيحية. والنص ليس قرارا وإنما نسخة مبدئية يمكن أنْ تتحوّل إلى مشروع سياسي يتضمن مجموعة إجراءات (عقوبات وتعويضات) ملزمة للإدارة الأميركية الحالية والمقبلة.

السؤال: لماذا الآنَ جرى الاعتراف بحملة إبادة حصلت وقائعها منذ نحو قرن؟ ولماذا أصرّت اللجنة النيابية على طرح الفكرة على رغم تحذيرات وتنبيهات أطلقتها إدارة تعاني من خلل بنيوي في استراتيجيتها «الشرق الأوسطية»؟

الجواب يتعدّى الإطار الإنساني ويتصل مباشرة بالفضاء السياسي الذي تمر به المنطقة في سياق تجاذبات أميركية داخلية أخذت تفرض على الحزبين الجمهوري والديمقراطي سلسلة مراجعات للكثير من المحطات التاريخية.

فكرة الاعتراف بحصول «إبادة» للأرمن في مطلع القرن الماضي ليست جديدة، إلا أنها كانت تواجه دائما اعتراضات سياسية لها علاقة بالمصالح الأميركية في منطقة حيوية وحسّاسة. كذلك كانت القوى الغربية ترفض الاعتراف بحصول «إبادة» ؛لأنّ المجزرة حصلت بعد انقلاب حزب «الاتحاد والترقي» الجمهوري العلماني على السلطان العثماني، وبالتالي فإن الإسلام لا يتحمّل المسئولية التاريخية عما حصل ضد أقلية مسيحية.

حملة الإبادة حصلت بعد فترة ثماني سنوات على انقلاب ضباط الجيش على السلطنة في العام 1908، وبعد عزل السلطان عبدالحميد الثاني ووضعه في الإقامة الجبرية في العام 1909. وحين حصلت حملة الإبادة كانت الدولة مصادرة من قبل حفنة من الضباط العلمانيين القوميين ترفض الامتثال للشريعة الإسلامية وتاريخ السلطنة الذي ضمن وحافظ على حقوق الأقليات طوال ثمانية قرون. والانقلاب الذي نفذه الضباط على السلطان جرى في إطار تحوّلات دولية وإقليمية كبرى ساهمت لاحقا في تفكيك السلطنة بصفتها الشكل الدستوري الأخير من أشكال الدولة الإسلامية.

الانقلاب في جوهره ودوافعه الأولى ومادته المبدئية كان أصلا ضد الإسلام ووحدته السياسية وما تعنيه الشريعة من ضوابط وموانع وحلال وحرام. ولذلك حين اتخذ قرارطرد الأرمن بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914 حصل الأمر بناء على نص أيديولوجي (جمهوري علماني) أوروبي معاصر ولم يتأسس على فتوى إسلامية. فالإسلام يحرّم القتل بناء على هوية دينية أو قومية مخالفة بل أنه يعترف بالآخر ويضمن حقوقه ويشرّع سلوكه ويحمي الاختلاف ويعطيه كلّ ما يتطلبه من واجبات ومستلزمات (نظام التوريث، الحقوق المدنية، حق العبادة، وقانون الأحوال الشخصية).

لكلّ هذه الاعتبارات الشرعية والتاريخية حصلت الأقليات (والأرمن من بينها) على ضمانات نصت عليها آيات بيّنة لا تحتمل التأويل. وهذا الأمر الديني يفسرإلى حد كبير لماذا لم ترتكب المجزرة ضد الأرمن قبل العام 1909 وانما حصلت بعد انقلاب جمعية «الاتحاد والترقي» الجمهورية العلمانية التي أخذت بالأفكار القومية المتطرّفة التي كانت تعصف بالدول الأوروبية.

نظام ضد الإسلام

النظام «الجمهوري العلماني» الذي أعلن عنه رسميا في العام 1923 وألغيت بسببه الخلافة الإسلامية في العام 1924 تأسس فعليا قبل تلك الفترة. فالمرحلة التي امتدّت من 1908 إلى 1924 مرّت في محطات زمنية بدأت بالانقلاب على السلطان وعزله ثم الانقلاب على المجموعات الأهلية (القومية) التي تتألف منها السلطنة. وبعد الانقلاب العسكري المحلي تشكّلت رؤية قومية علمانية أخذت تمارس سياسة التمييز ضد الشعوب الإسلامية المنضوية تحت مظلة السلطنة. ولاقت المجموعات العربية سلسلة عقبات تمثلت في التمييز العنصري واللغوي تلتها خطوات عملية بهدف «تتريك» العرب ودمجهم في دائرة هوية قومية جديدة.

حملة الإبادة اذا لم تحصل في إطار خاص ومنعزل عن ثقافة علمانية حاولت اختلاق أزمات بناء على توجهات وقرارات وخطوات عشوائية طاولت كلّ حقوق المجموعات «القومية» المختلفة في اللغة أو الثقافة أو الدين. والاضطهاد الذي صدر عن النخبة العسكرية (الدولة الانقلابية) لم يقتصر على فئة واحدة وانما شمل فئات مختلفة مسلمة أو عربية كانت تشكل تاريخيا ذاك النسيج المتنوع في لغاته وثقافاته وألوانه وأعراقه.

فكرة الطرد إذا جاءت بناء على أيديولوجية قومية أوروبية المنشأ وتعتمد على قراءات «جمهورية علمانية» ضد الإسلام ترفض التنوّع والاختلاف وترى أنّ التعددية تهدد تماسك الدولة القومية المعاصرة. وجمعية «الاتحاد والترقي» آنذاك تأثرت نخبتها، وخصوصا مجموعة الضباط التي قادت الانقلاب، بتلك النظريات «العرقية» و«الشوفينية» التي كانت سائدة في أوروبا في مطلع القرن العشرين وأدّت لاحقا إلى تأسيس نزعة فاشية/ نازية اكتسحت إيطاليا وألمانيا ومهدت الطريق الأيديولوجي لاندلاع الحرب العالمية الثانية في العام 1939.

هذا الفكر القومي المنغلق كان هو المحرك الأيديولوجي الذي دفع تنظيم «الاتحاد والترقي» إلى اتباع سياسة التتريك تمهيدا لتأسيس قاعدة متماسكة عرقيا ولغويا تبرر إعلان دولة «جمهورية علمانية» في مرحلة لاحقة. وبناء على هذا التفكير الشوفيني والفوقي والاستعلائي قررت النخبة الانقلابية محاربة الحجاب الإسلامي (المستورد برأيهم) ومنع الآذان باللغة العربية وتغيير الأبجدية العربية وإلغاء الشريعة واستبدالها بدساتير أوروبية ونصوص قانونية مترجمة عن الألماني والفرنسي والبلجيكي وغيرها.

المسئولية إذا تقع على نخبة انقلابية وليس على الإسلام وشريعته وأسلوبه الخاص في تنظيم علاقاته مع الأقليات القومية أو الدينية المختلفة في هويتها وطرق عباداتها. ولهذا السبب العقائدي كانت أوروبا والولايات المتحدة تتهربان من الرد على المسألة وتتجنبان الخوض في موضوع هناك شبه إجماع على أن الفكر «الجمهوري العلماني» في نسخته الأولى يتحمّل مسئولية اتخاذ قرار الطرد. فالدول الغربية تدرك سلفا أنّ الاعتراف بحصول إبادة ضد الأرمن المسيحيين يعني تهديد ذاك «النموذج الأتاتوركي» الذي كانت تراهن عليه بوصفه البديل التاريخي (القومي العلماني) عن الإسلام وشريعته وثقافته.

ترددت أوروبا ومعها الولايات المتحدة نحو 92 سنة وتجاهلت المجزرة حتى لا توقع دولة مسلمة (علمانية جمهورية) في مشكلة تثير أسئلة تاريخية بشأن أفكار ساهمت سياسيا في تقسيم السلطنة وبعثرتها قوميا إلى دول مستقلة ضعيفة ومتخاصمة.

الآنَ تبدو المسألة مختلفة. فالتجربة الأتاتوركية (العلمانية الانقلابية) وصلت إلى نهاياتها واستنفدت أغراضها ووظائفها وبدأت تركيا تستعيد هويتها الثقافية بهدوء ومن دون افتعال، وربما أدّى الأمر لاحقا إلى إلغاء الكثير من القرارات أو الخطوات التي اتخذت قبل قرن ضد الإسلام وما تنصّ عليه شريعته من حلال وحرام.

النص الذي تبنته لجنة نيابية في الكونغرس بشأن حملة «الإبادة» التركية ضد الأرمن يعتبر ضربة ثقافية استباقية ضد تحوّلات مفترضة أو محتملة يمكن أنْ تتخذها «دولة علمانية» يرأسها للمرة الأولى رئيس إسلامي أو يتبنّى توجهات إسلامية معتدلة ومعاصرة تتكيّف مع هوية المجتمع ولا تتعارض كليا مع قوانين الجمهورية.

توقيت صدور النص خبيث للغاية. فالصحوة (يقظة الضمير) تأخرت 92 سنة ولكنها جاءت في وقت تتعرّض فيه تركيا إلى ضغوط عنيفة سواء من جانب الاتحاد الأوروبي الذي يتجّه نحو رفض قبول عضوية دولة مسلمة في منظومته الاقتصادية أو من جانب التصعيد العسكري الذي باشره حزب العمّال الكردستاني الأسبوع الماضي في جنوب شرق الأناضول (مقتل 15 جنديا).

توقيت النص أخطر من تلك الفقرات التي اشارت إلى حصول حملة إبادة. فالنص جاء ليربك توجهات حزب إسلامي معتدل في رؤيته ونجح في الإمساك بمفاصل «دولة اتاتوركية» وربما يفكّر في اتخاذ قرارات لا تتجانس مع منظومة أفكار اعتمدتها جمهورية انقلابية علمانية قبل مئة سنة. فالتوقيت ضربة استباقية استندت إلى واقعة تاريخية أراد الكونغرس توظيفها لتعطيل دور محتمل يمكن أنْ تلعبه تركيا في الأمد المنظور.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1863 - الجمعة 12 أكتوبر 2007م الموافق 30 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً