كلّ طرق «الديمقراطية» مقطوعة في لبنان، أو على الأقل تواجه «الديمقراطية الطائفية» عقبات سياسية وحواجز أهلية تعطل عليها إمكانات التقدّم والتطوّر والنمو. فالبلد يعتمد نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية ويوزّع الولاءات على مراكز قوى وأمراء حرب ومقاطعات يعرقل مهمات الدولة ووظائفها. والبلد يقع في «شرق المتوسط» الذي تسوده أنظمة لا تتعايش ثقافيا مع فكرة «الديمقراطية» ولا تحترم كثيرا مفهوم «الدستور» ومقتضيات الالتزام بالقوانين وتكره مواعيد تداول السلطة. والبلد تحيط به جغرافيا سياسية محكومة بصراعات إقليمية ونزاعات تديرها أجهزة ومخابرات وشبكات تجسس. والبلد أيضا هو جزء من دائرة «الشرق الأوسط» تتمتع بموقع استراتيجي حسّاس يحتوي على مادة نفط تعتبر حيوية ولا غنى عنها في لعبة توازن الاقتصاد الدولي.
كلّ هذه الفضاءات الدولية والإقليمية والمحلية تساهم بدرجات نسبية متفاوتة في قطع الطرق وإقفال إمكانات نمو فكرة «نموذجية» تحتاج إلى رعاية وحكمة وعقلانية تبدو متطلباتها الجغرافية والتاريخية غير موجودة في منطقة لا تزال تتخبّط في خياراتها السياسية وهويتها «القومية». ولبنان في هذا الإطار الموضوعي لا يستطيع ذاتيا الخروج منفردا من دائرة تتحكم بها مجموعة قوانين تتعارض مع أبسط قواعد اللعبة «الديمقراطية» وما تتطلبه من احترام للدستور.
مسألة «الديمقراطية» في لبنان صعبة وهي دائما عرضة للتقلبات والتدخلات؛ لانها تعتمد لعبة سياسية غير مقبولة وتستند إلى ثقافة لا جذور تاريخية لها في بلد طائفي ومذهبي يستخدم نظام «الملل والنحل» في إنتاج قيادات الدولة.
المشكلة إذا مزدوجة في مصادرها وموادها الأولية. فهي من جهة تعاني من عوائق وضغوط جغرافية جوارية تستمد عناصر قوتها من محيط سياسي تستبد به أنظمة لا تحترم الخيارات الحرّة ولا تكترث للقوانين والدساتير والمحاكم والقضاء وغيرها من شروط تقتضيها فكرة العدل أوالعدالة. وهي من جهة أخرى تواجه مشكلات داخلية تأسست على نظرية سياسية حاولت الجمع بين فكرة «حداثية» ونظام قديم.
عملية الدمج بين «الديمقراطية» و«الطائفية» تعتبر تقليديا محاولة سياسية للربط بين واقع موروث عن الماضي ونموذج «مستورد» أرادت فرنسا في عهد الانتداب اختبار مفاعيله الثقافية في ميدان «الشرق الأوسط» بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
فكرة الجمع بين «القديم» و«الجديد» شكلت في البداية خطوة انتقالية كان لابدّ منها لترسيخ تجربة «نموذجية» غير معهودة في منطقة اعتمدت تقليديا أنظمة سياسية مغايرة. إلاّ أن التمسك بالفكرة وعدم تطويرها وتعزيزها أدّى إلى نمو نوع من ازدواجية السلطة والولاء بين واقع ديموغرافي (سكّاني) متغيّر وهيئة تمثيلية خضعت لتوازنات طائفية في معادلة المحاصصة. وبسبب تعارض المتغير (النموالديموغرافي) مع الثابت (المناصفة الدينية والمشاطرة المذهبية) تراجع موقع الدولة وتقلّص نفوذها وتعطلت وظائفها لمصلحة نمو مراكز قوى تتنافس على الحصص والصلاحيات والمسئوليات.
المشهد السياسي الذي استقر عليه لبنان في السنوات الأخيرة هو نتاج فشل مشروع المصالحة بين «الديمقراطية» و«الطائفية» في إطار محيط إقليمي غير جاهز لتقبل فكرة الدستور واحترام القوانين وحقوق الإنسان. ولبنان الدولة في هذا السياق التاريخي/ الجغرافي يعتبر ضحية معادلة أسستها فرنسا في مطلع القرن العشرين وأدّت إلى نمو «نموذج» مشوّه يجمع التناقضات في شخصية مركبة بين «القديم» و«الجديد».
فكرة «الديمقراطية» في لبنان ولدت في دائرة «الطائفة» وتأسست بناء على نظام محاصصة ورثه العثمانيون عن المماليك منذ القرن السادس عشر. وهذا النوع من الأفكار يمكن أنْ يلقى ذاك التفهم الموضوعي في لحظة تأسيسة بسبب الظروف العامّة والذاتية لنموذج كان يطمح لتقديم صورة أخرى عن عالم آخر. إلاّ أنّ المشكلة تفاقمت بعد الخروج من فترة التأسيس والانتقال إلى تطبيق تجربة «حديثة» في مجتمع غير حديث تحيط به أنظمة غير مستعدة ثقافيا للتأقلم مع مثال يتعارض في جوهره مع واقع منطقة تتكاثر فيها الملل والنحل والأكثريات والأقليات.
المثال والواقع
هناك أمثلة عينية يمكن تقديمها للدلالة على مأزق «الديمقراطية الطائفية» في لبنان. والأمثلة جديدة وتم تداولها في السنوات الأربع الماضية وكلّها انتهت إلى اعتراضات لأسباب تتصل بالطائفة لا بالديمقراطية.
مثلا طرح البعض اعتماد النظام النسبي في الانتخابات في اعتبار أنّ الهيئة التمثيلية (مجلس النواب) يجب أنْ تكون متطابقة أو متجانسة مع التوازنات الأهلية. الفكرة صحيحة ديمقراطيا وهي مأخوذ بها ومطبّقة في بعض الدول الأوروبية التي تتمتع بالحد الأدنى من التجانس الديني والمذهبي. إلاّ أنّ الفكرة رفضت طائفيا؛ لأنها تؤدي إلى إلغاء نظام المحاصصة وتوزيع المقاعد وفق منظومة نسبية لاتعادل بين المذاهب المسيحية والإسلامية. وبسبب تداخل الزوايا واختلاط الطائفة بالديمقراطية رفضت «الأقليات» فكرة الاقتراع النسبي حتى لا تتحكم «الأكثريات» في معادلة التمثيل النيابي.
مثلا اقترح البعض اعتماد الاقتراع الشعبي المباشر لاختيار رئيس للجمهورية وبالتالي مَنْ يفوز بغالبية الأصوات يحتل مقعد الرئاسة. الفكرة أيضا صحيحة ديمقراطيا وهي معتمدة في معظم دول العالم الغربي وتحديدا الولايات المتحدة وفرنسا. إلاّ أنها في جوهرها تتعارض مبدئيا مع موضوعة الطائفة ومنصب رئاسة مخصص للمسيحيين وتحديدا الموارنة. ولهذه الاعتبارات الطائفية (الديموغرافية) رفض معظم المترشحين الموارنة لمنصب الرئاسة فكرة الانتخاب المباشر من الشعب؛ لأنّ معظم الشعب يتألف في غالبيته من المسلمين. القبول بالفكرة يعني الموافقة على اختيار الطوائف المسلمة للرئيس المسيحي. وهذا برأي المترشحين يعرض صيغة «المحاصصة» للانهيار ويزعزع التعايش الأهلي والتوافق على نسبة الحقوق والصلاحيات وموقع «الرئاسة» في معادلة الدولة وميثاقها وتلك الضمانات التي يكرّسها الدستور في مواده.
هناك إذا مشكلات «لبنانية» معطوفة على تدخلات إقليمية ودولية تعطل إمكانات تطور الفكرة «الديمقراطية» وتحوّلها إلى «نموذج» يحتذى في دائرة جغرافية مضطربة وغير مستقرة. فالفكرة تعاني من خلل داخلي ناجم أصلا عن نمو ديموغرافي للطوائف أدّى إلى تعديل زوايا الصورة وبدأ يهدد بقلب معادلة ميثاقية وضعت مؤقتا في منتصف القرن الماضي للاختبار الميداني.
هذه «الديمقراطية» تأسست على منظومة علاقات تقليدية متوارثة وحاولت الجمع بين «الجديد» و«القديم» تحت سقف التوافق على نظام الحصص الذي يضمن التوازن ويعطي «الأقليات» حقوقها مهما تراجع نموها الديمغرافي. الفكرة في أساسها «جيّدة» و«إنسانية» و«عادلة» نظريا وشكّلت خطوة سياسية للخروج من مأزق التمثيل النيابي في بلد متعدد الطوائف ومتنوع المذاهب، ولكنها عمليا ليست واقعية في إطار تفاعلها مع توازنات أخذت تتغيّر سكّانيا. فالطوائف في العام 1920 غيرها في العام 1950، واختلفت أيضا في العام 1970، وتبدّلت مواقعها ومواضعها في العام 1990. والآنَ بعد مضي 18 سنة على «اتفاق الطائف» عادت دورة العنف السياسي تعصف طائفيا بالبلد «الديمقراطي» المسيّج بدول تكره الدساتير وتخالف مقولة تداول السلطة.
كلّ هذه العوامل الموضوعية والذاتية تشير مجتمعة إلى أنّ مستقبل «الديمقراطية» في لبنان محكوم في النهاية بالمعادلة الطائفية والديموغرافية (السكانية). وهذا يعني أنّ فكرة التعايش نفسها وصلت إلى أشواطها الأخيرة ولم يعد بالإمكان تطويرها في سياق عملية الدمج أو التوفيق بين نظام الملل والنحل ونظام التمثيل السياسي القائم على حصص ثابتة. فالديمقراطية في جوهرها تعكس التوازتات السياسية في بلد متجانس أهليا ومتماسك دينيا أو مذهبيا. وهذا الأمر غير موجود في بلاد الأرز في اعتبار أنّ الديمقراطية فيه تأسسست على ثوابت(الحصص) ولم تأخذ المتغيرات الديموغرافية (الطائفية) وتأثيرها السلبي في كسر توازن القوى و نسبة توزيع المقاعد.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1861 - الأربعاء 10 أكتوبر 2007م الموافق 28 رمضان 1428هـ