بمرور الأيام وتواني الحوادث، تدحرجت الأهمية هبوطا... من مؤتمر دولي لحل الصراع العربي الإسرائيلي، إلى لقاء ثم مجرد اجتماع...
ولقد عكس هذا التدحرج ضعف إرداة الداعين إليه، ونعني الساسة الأميركيين وفي مقدمتهم الرئيس بوش الابن، فالمقدمات التي طرحها والأساليب التي مارسها، تنبئ بصدق عن النتائج المتوقعة، من اجتماع بلا هوية محدودة وأجندة واضحة، اللهم إلا العلاقات العامة، وحملة الدعاية التي تروج أن واشنطن كانت وستظل ممسكة بكل أوراق التسوية في المنطقة متحكمة في إدارة شئونها وتوجيه سياساتها... إن أرادت أن تفتح الباب فتحته من دون معارضة، وإن أرادت أن تغلقه أغلقته من دون احتجاج حقيقي!
الرئيس بوش يتحدث كثيرا هذه الأيام عن الاجتماع الدولي الذي دعا لعقده في واشنطن، في الخريف، ربما في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ومن خلفه يردد الكورس الأميركي والعربي صيحات التأييد وأناشيد الإشادة، وها نحن نرى الأطراف الرئيسية صاحبة المصلحة الأساسية، يتراوحون ما بين تأييد عقد الاجتماع المزمع، وبين التردد في حضوره وربما مجرد التمنع من باب سوق الدلال، قبل الوصال!
وبقدر عدم وضوح مواقف الأطراف العربية، بقدر غموض موقف «إسرائيل»، ماذا يريد هذا وذاك من هذا الاجتماع، بأي أوراق يلعب، وأي هدف يسعى لبلوغه... وربما فقط لتحقيق الهدف الأميركي وهو «العلاقات العامة» تأتينا وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، ليس لإزالة الغموض السائد، بل للتأكد من حضور الأطراف الرئيسية وعدم غياب أحد ممن تريد حضورهم! ولا ندري بصراحة لماذا يذهب العرب إلى مثل هذا الاجتماع، وهم يتشككون أصلا في جدوى انعقاده، ولماذا ينصاعون بهذه السهولة لاستقدام أميركا لهم، إن كانوا يعرفون سلفا أنه استدعاء دبلوماسي أشبه بالاستدعاءات العسكرية!
نعم... لماذا يذهب العرب وهم منقسمون مختلفون بداية فيما بينهم، وهم يعانون ضعفا في الإرادة السياسية وغيابا في الرؤية القومية إلى حد الهزال، وهم يعرفون جيدا أنهم لن يخرجوا من الاجتماع بنتائج حقيقية تتقود إلى تسوية عادلة شاملة للصراع العربي الإسرائيلي، وفي المقدمة القضية الفلسطينية، وهم يدركون أن هدف أميركا من هذا الاجتماع، ليس تسوية ذلك الصراع، وإنما الهدف تبريد الجبهة العربية وتسخين الجبهة الإيرانية، وهم يوقنون أن «إسرائيل» لن تتنازل وتقبل المبادرة العربية الشهيرة، بعد نحو خمس سنوات من طرحهم لها ورفضها لها!
ولعلنا نعرف مقدما ثمرات الفشل التي تنتظر هذا الاجتماع قبل أن يبدأ، والسبب هو الضعف العام في الإرادات السياسية المدعوة، إنه في رأينا اجتماع الضعفاء ولقاء المنهكين المتعبين، غير القادرين على مناقشة جوهر القضايا المطروحة، وإن ناقشوا فهم غير قادرين على وضع الحلول المقبولة، وإنما هم يذهبون ساعين زاحفين مدفوعين بوهن الضعف، وليس بقوة الفعل والإرادة!
الرئيس الأميركي الداعي، في أضعف حالاته على المستويين الداخلي والخارجي، فهو محاصر بين مطاردة خصومه «الديمقراطيين» في الداخل وبين مأزقه في العراق وورطته في أفغانستان وفشله في ما أسماه الحرب الكونية ضد الإرهاب... ولذلك تدنت شعبيته إلى أقل من 30 في المئة وفق أحدث الاستطلاعات!
لكن الرجل وقد دخل عامه الأخير قبل إجراء انتخابات الرئاسة وثلث أعضاء مجلس الشيوخ في نوفمبر 2008، عام البطة العرجاء، يريد القيام بعمل كبير يمثل إنجازا له ينقذ سمعته وشرفه قبل ترك البيت الأبيض، ويمهد الطريق أمام حزبه الجمهوري لخوض انتخابات ناجحة... وليس أمامه، انقاذا لضعفه الواهن، سوى شن حرب ضد إيران بمساعدة «إسرائيل»، على ناحية، وجلب العرب و»إسرائيل» إلى اجتماع يزعم بعده أنه حقق الإنجاز المطلوب، تماما كما فعل سلفه الرئيس السابق كلينتون، حين استدعى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورئيس وزراء «إسرائيل» السابق باراك إلى اجتماع أو اعتقال في كامب ديفيد... وانتهى الأمر كما يعلم الجميع إلى فشل يقود فشلا، لأن أعمى كان يقود عميانا!
وبالمثل فإن فيروس الضعف والوهن أصاب طرفي الصراع، فالعرب على عهدهم مختلفون حتى على قضيتهم الرئيسية، قضية فلسطين، ناهيك عن قضية العراق والحرب المتوقعة ضد إيران، فضلا عن لبنان وسورية والسودان، ونأمل في اجتماعات الجامعة العربية تعرف حقيقة الصورة السوداء. ولا ندري كيف يذهب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهو يعاني هو الآخر كل عوامل الضعف والوهن، ابتداء من هذا الانقسام والخصام الحاد بينه وبين حركة حماس، والفصل التعسفي بين غزة والضفة، وانتهاء بتهاوي كل أوهامه بشأن التفاهم مع رئيس وزراء «إسرائيل» أولمرت، الذي يعيش كذلك أدنى درجات الضعف الداخلي...
إنه إذا اجتماع الضعفاء، الذي لن يسفر إلا عن مزيد من الضعف، بصرف النظر عن التصريحات الدبلوماسية العربية، التي تبشر بأمل لن يجئ وتتطلع إلى فجر لن يشرق، في ظل هذه الظروف!
إذا... لماذا ينعقد اجتماع واشنطن، ولماذا تذهب إليه الأطراف المدعوة!
لكي نجيب، ينبغي أن نتعرف على ما تريده هذه الأطراف... ونبدأ بـ «إسرائيل»، التي تريد اجتماعا يكرس التطبيع رسميا بينها وبين أطراف عربية ليس لها علاقات علنية معها، مثل السعودية ودول الخليج وباقي دول المغرب العربي، ولا بأس بصورة تذكارية مع المندوب السوري والممثل اللبناني، إن حضر أي منهما...
لقد أوضحت مواقفها علانية ـ أولا بطلب مشاركة الأطراف العربية وبدء التطبيع معها، ورفضت ثانيا وضع العرب لشروط مسبقة، مثلما رفضت ثالثا مناقشة أوضاع الحل النهائي، أي التسوية الشاملة لقضايا الحدود واللاجئين الفلسطينين وحق العودة والمستوطنات الصهيونية ووضع القدس... إذا ماذا بقي للتفاوض عليه في واشنطن، غير صورة تذكارية لتطبيع مطلوب، وغير بيان صحافي، ربما يكون جوهره ما يجرى إعداده الآن بين عباس وأولمرت والمسمى اتفاق مصالح!
والفلسطينيون، في ظل انقسامهم الحاد وضعفهم البادي، يأملون في وثيقة دولية لاتفاق مبادئ، تضع خريطة طريق جديدة لمفاوضات الحل النهائي، لكنه حلم واهم، لأنهم اضعف من قدرة الحصول عليه، ولأن «إسرائيل» مسنودة بأميركا أقوى من التسليم به في هذه الظروف، ولأن العرب سندهم المفترض بتدحرجون من ضعف إلى ضعف كما سنرى...
أما العرب، فمازالوا يقولون علنا إنهم متمسكون بمبادرة القمة العربية، مرجعية أساسية «الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الأرض العربية، مقابل التطبيع الكامل» إضافة إلى التمسك بالمرجعيات الدولية الأخرى، من قرارات الأمم المتحدة، إلى مرجعية مؤتمر مدريد للسلام إلى اتفاقات أوسلو وحتى تفاهمات شرم الشيخ... لكن الأماني لا تتحقق إلا في الأحلام، والرغبة العربية في تحقيق ذلك كله شيء، والقدرة على تحويل الأحلام إلى وقائع وأعمال شيء أخر...
إنه الضعف مرة ثانية، يتخفى وراء دبلوماسية الحوار وطرق الأبواب، فضلا عن الادعاء بمرونة إسرائيلية ورغبة أميركية في التسوية!
يبقى ما يريده الأميركيون من هذا الاجتماع المزعوم... لقد أوضحنا من قبل، البيئة الداخلية والخارجية التي ينطلق منها الرئيس الضعيف بوش، ولأنه في موقف ضعيف ومأزق ضيق، يريد مخرجا أمنا قبل أن يسلم الراية، حتى يتذكره التاريخ في بضع سطور...
أميركا تريد من هذا الاجتماع تحديدا، تبريد جبهة الصراع العربي الاسرائيلي ببضع مسكنات أو ببنج موضعي، لكي تحشد العرب خلف قضيتها الرئيسية المشتعلة، بفرعيها العراقي من ناحية والإيراني من ناحية أخرى، تطلب مساعدتهم في الخروج الآمن والمشرف من المقتلة العراقية، بعد كل هذا الاستنزاف العسكري والبشرى والمالي الهائل، وللتناقض تطلب مساعدتهم الأقوى، في مساندتها في حربها المنتظرة ضد إيران، بحجة القضاء على التدخل الإيراني في العراق على ناحية، وإجهاض المشروع النووي الايراني على الناحية الأخرى، وفي المقابل تعطيهم منحة واهية تسيل لعابهم...
وزيرة الخارجية الأميركية كانت الأكثر إفحاصا وشفافية، حين قالت في نهاية شهر سبتمبر/ أيلول الماضي بوضوح، إن إدارة بوش تسعى إلى تشكيل تحالف قوي من الدول التي تشعر بقلق شديد من امتداد النفوذ الإيراني... وطبعا هذه الدول المقصودة تبدأ بـ «إسرائيل»، وتنتهي عندما يسمى بمحور المعتدلين العرب الذي يضم مصر والسعودية والأردن والخليج...
الأمر بالغ الوضوح إذا... اجتماع واشنطن من وجهة النظر الأميركية على الأقل، هو الإعلان الرسمي والتدشين الواقعي لتحالف واسع، يضم عربا وإسرائيليين وأميركيين وأوروبيين، لهم هدف واضح، غير هدف التسوية الشاملة العادلة للصراع الأهم، الصراع العربي الإسرائيلي...
ولعلي في النهاية اسأل نفسي من جديد... لماذا إذا نذهب إليه ساعين شاركين، زاحفين مؤيدين!
خير الكلام:
يقول الصوفي ابن الفارض:
اتعبت نفسك في نصيحة من يرى
أن لا يـــــرى الإقبــــال والإفـــــــــلاحا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1860 - الثلثاء 09 أكتوبر 2007م الموافق 27 رمضان 1428هـ