عبر معظم العقود الثلاثة الماضية، كان التفاعل المتبادل بين السوريين والعراقيين محدودا إلى أقصى الدرجات، ومقتصرا على أقل تعديل، على لجوء الهاربين السياسيين للإقامة في بغداد ودمشق. جميع أصحاب المناصب في العراق اليوم أقاموا في يوم من الأيام في العاصمة السورية: نوري المالكي وجلال طالباني ومسعود البرزاني وإبراهيم الجعفري. ولكن لم يكن لأي من الدولتين سفارة في عاصمة الدولة الأخرى، ولم تكن هناك زيارات رسمية أو تبادلات ثقافية أو خطوط هاتفية تربط البلدين. كان السوريون الذين يتقدمون للحصول على تصريح بالسفر يحصلون عليه مختوما بعبارة “جميع الدول العربية ما عدا العراق” على جوازات سفرهم. السلطات العراقية في بغداد كانت تفعل الشيء نفسه. وقد تم رفع هذه القيود لفترة وجيزة في سبعينات القرن الماضي عندما انضمّت الدولتان لفريق واحد لمعارضة صفقة السلام التي عقدها الرئيس المصري أنور السادات مع “إسرائيل”، فتدفق العراقيون إلى سورية للسياحة والدراسة والقيام بالأعمال التجارية.
يوجد اليوم في سورية قرابة 1.5 مليون عراقي، ولكن بعكس الوضع قبل ثلاثة عقود فإن معظم هؤلاء من اللاجئين. بدأوا بالوصول بُعَيد الغزو الأميركي في مارس/ آذار 2003 وما زالوا يدخلون بمعدل ألفي لاجئ يوميا، وهم يشكلون اليوم 11 في المئة من عدد سكان سورية البالغ 18 مليون نسمة. سورية، المتمسكة بتاريخها الوطني العربي وقناعاتها العروبية، هي إحدى الدول العربية القليلة التي تسمح للعراقيين بالدخول بحرية والحصول على تصاريح إقامة مؤقتة وامتلاك العقارات على أراضيها.
وقد كان للعراقيين داخل سورية أثر مهم، فقد جعلت الأقلية الثرية أسعار العقارات ترتفع إلى عنان السماء وساهمت بنسبة نمو تصل إلى 5 في المئة. ولكن كمجموعة، شكّل العراقيون نزفا للاقتصاد الذي جرى مطّه إلى أقصى مدى لتوفير الخدمات الأساسية لهم مثل ماء الشرب النظيف والصرف الصحي والرعاية الطبية والتعليم. كما أن المدارس الحكومية في سورية تستخدم جميع طاقاتها، مثلها مثل الموارد الحكومية. وأدت صعوبات الحصول على وثائق مدرسية صحيحة من العراق إلى تحول الكثير من تلاميذ المدارس إلى مستنكفين عن الدراسة في سورية ولجوئهم إلى أعمال عرضية على الشوارع. على رغم ذلك، وَعَد السوريون بمحاولة استقبال مئة ألف طفل عراقي في المدارس التي تديرها الدولة، إضافة إلى 40،000 طالب جامعي عراقي مسجلين في الجامعات السورية.
وأدى العدد المتزايد للمومسات العراقيات لأن تصعّب الحكومة دخول النساء من سن 15 إلى 40 سنة إلى سورية ما لم يرافقهن قريب ذكر. وحسبما ذكرت هناء إبراهيم مؤسِّسة منظمة “عزيمة المرأة” وهي منظمة عراقية غير حكومية، فإن 50،000 امرأة عراقية تحولن إلى مجال العمل في الجنس في أرجاء العالم العربي نتيجة للأوضاع غير المحتملة لحياتهن كلاجئات. كما ارتفعت نسبة الإجرام في سورية، وهي منخفضة جدا في العادة، في السنوات الأخيرة في الأحياء الشرسة التي تصعب السيطرة عليها التي يقطنها العراقيون، والتي تُطلَق عليها تسمية “الفلوجة الصغيرة”.
يكلف اللاجئون العراقيون الدولة السورية ما لا يقل عن مليار دولار أميركي سنويا. وحتى تاريخه لم تأت معونة رسمية إلى سورية إلا من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، وقيمتها مليون دولار أميركي. وعلى رغم أن الولايات المتحدة تعهدت بدفع 153 مليون دولار لكل من الأردن وسورية ولبنان لمساعدتها على التعامل مع مشكلة اللاجئين فيها إلا أن هذه المساعدات لم تصل إلى دمشق حتى الآن. وقدمت المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين (UNHCR) معونة قدرها 10 ملايين دولار أميركي لأهداف الصحة والتعليم من موازنتها البالغة 123 مليون دولار للعام 2007.
طالما كان العبء الأكبر وما زال ملقى على كاهل الحكومة السورية ودافعي الضرائب السوريين. وعلى رغم أنه منذ العام 2003 قدمت الولايات المتحدة 700 مليون دولار “لمساعدة الأردن على تحمل نفقات الأضرار الاقتصادية التي يواجهها نتيجة للنزاع في العراق”، إلا أنه لم يجر تقديم دفعات مقارنة لسورية. كما أن حكومات غربية أخرى تتحمل كذلك مسئولية الفوضى في العراق، مثل أستراليا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا والدنمرك واليابان وبريطانيا، لم تبدِ استعدادا لمساعدة سورية في إعانة اللاجئين العراقيين بشكل مناسب.
يجب ألا ينسى العالم أنه أثناء الحرب بين حزب الله و”إسرائيل” الصيف الماضي، استقبلت سورية مئات الالآف من اللاجئين اللبنانيين، وهي كذلك تشكل وطنا دائما لسبعمئة ألف لاجئ فلسطيني من نزاع سابق قديم.
يفسر هذا كلّه لماذا أعلنت سورية أنها ستفرض قيودا صارمة على اللاجئين القادمين من العراق ابتداء من سبتمبر/ أيلول 2007. وذكر البيان الذي حمل تعابير الأسف أن سورية “لا تستطيع تحمّل أكثر من ذلك”. سيجري إصدار تأشيرات فقط للقادمين لأهداف دراسيّة أو علميّة أو للأعمال التجارية. بعد دخول هذه الإجراءآت حيز التنفيذ بفترة قصيرة، وُصفَت نقطة العبور الحدودية عند الطنف بأنها “فارغة تقريبا”. وقد ناشدت المنظمات الدولية ووسائل الإعلام والدول سورية إعادة النظر، مدعية بأن هذه القيود سوف “ تمنع اللاجئين من الهرب من العنف في بلادهم”. وأرعب هذا الأمر العراقيين ورفع من مستوى الخوف في المجتمع الدولي، ما حدا بالولايات المتحدة لأن تعلن في 21 سبتمبر أنها ستبدأ باستقبال ألف عراقي شهريّا‘ اعتبارا من منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2007. مع حلول أواخر سبتمبر 2007، تكون الولايات المتحدة قد استقبلت 2700 لاجئ عراقي، وهو عدد هزيل إذا قورن بمن تستقبلهم سورية. وصرّح ، مستشار وزارة الأمن الوطني بول روزنزويغ: “في السنة القادمة، سنقوم بإعادة توطين 12000 عراقي من عدد متوقَّع يبلغ 70000 في أرجاء العالم كافة “. من جانبهم، قام السوريون بتغيير الاتجاه بشكل مؤقت من خلال تخفيف القيود “لأسباب إنسانية” خلال شهر رمضان المبارك (الذي بدأ يوم 13 سبتمبر)، مدّعين أن ذلك سيستمر فقط حتى منتصف شهر أكتوبر عندما تنتهي فترة الصوم.
سوف تخلق سورية، في حال إغلاقها حدودها أمام اللاجئين المهاجرين من العراقيين، بغض النظر عن ترددها في القيام بذلك، مشكلة أكثر خطورة بكثير للجميع في المنطقة، وللغرب في نهاية المطاف.
بغض النظر عن سبب أو كيفية خوض الحرب في العراق، فإن سورية والولايات المتحدة تتشاركان في المصالح الإنسانية المتعلقة بتخفيف حدة المأزق الذي يعاني منه هؤلاء اللاجئون. بالتأكيد، يتوجب على الدولتين أن تتفقا على ذلك.
*محلل سياسي سوري ومؤلف كتاب «الفولاذ والحرير: الرجال والنساء الذين شكلوا سورية 1900 - 2000». يدّرس مبيض في كلية العلاقات الدولية بجامعة القلمون في سورية، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1860 - الثلثاء 09 أكتوبر 2007م الموافق 27 رمضان 1428هـ