بغالبية 376 عضوا وافق الكونغرس الأميركي الأربعاء الماضي في دورته الـ 110 على القرار 635 الذي صدر بمناسبة شهر رمضان. القرار تاريخي بكل المقاييس الثقافية والسياسية؛ لأنّه نص على نقطتين إيجابيتين: الأولى الاعتراف بالإسلام كدين سماوي عالمي. والثانية الاعتذار من المسلمين عن التجاوزات والإهانات التي تعرضوا إليها بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
القرار يعتبر خطوة حسنة باتجاه المصالحة مع المسلمين وتصحيح تلك العلاقات التي تأزمت بسبب استراتيجية أميركية هجومية تعاملت مع الإسلام والمسلمين بذهنية سلبية وضعت العالم الإسلامي كلّه في خانة الإرهاب والإرهابيين.
القرار تأخّر كثيرا، إلا أنّ صدوره أفضل من عدم صدوره. وهو يشكّل خطوة ذات معنى في لحظة تاريخية انتقالية أخذت تهدد التوازن العالمي وكادت أنْ تدفع البشرية نحو «صراع حضارات» لا وظيفة له سوى الدمار والخراب ونهاية مأسوية لجماعات لا مفرّ لها من العيش المشترك. فهذا العالم الذي يجمع البشر يتألف أساسا من حضارات تتنافس وتتدافع، إلا أنه في النهاية لا بدّ له من التعايش حتى لا يتفجر التدافع الإنساني ويتحوّل إلى صراع عسكري يدّمر النسيج المركّب من ألوان وثقافات ولغات مختلفة في عاداتها ومسلكياتها.
قرار الكونغرس الذي صدر في رمضان يؤشر إلى وجود بداية وعي أميركي لخطورة تلك السياسة الهجومية التي اعتمدتها إدارة «البيت الأبيض» لتحطيم حضارة ساهمت في تطوير التقدّم الإنساني لمدة نحو ثمانية قرون. والقرار المتأخّر حاول قدر الإمكان الإجابة عن مسألتين مهمتين وهما: الاعتراف والاعتذار.
الاعتراف يشكّل المدخل السليم لتصحيح علاقات تاريخية ملتبسة تداخل فيها الدين مع المصالح واختلطت فيها السياسة مع المعتقدات وأدّت إلى ترتيب تصوّرات وهمية عن عالم آخر مختلف في ثقافته وتقاليده ومسلكياته ولكنه في نهاية المطاف يلتقي مع الديانات الأخرى في المبادئ الكبرى.
الاعتذار أيضا يشكّل المدخل الضروري لمعالجة تداعيات راهنة تسبب في اطلاقها ذاك النهج الأيديولوجي المتخلّف والمتعصّب والانعزالي والانغلاقي الذي أطلق عليه تيار «المحافظين الجدد». فهذا التيار التافه رسم سلسلة تصوّرات ذهنية عن المسلم واعتمد خطة التشهير لإثارة المخاوف في شارع قليل الخبرة ولا يملك معلومات دقيقة عن الإسلام. وكاد التيار المذكور أنْ ينجح في سياسته التقويضية حين جرف معه بعض الدول الأوروبية (والغربية) في معركة لا نهاية لها لأنها تواجه مساحة جغرافية يعيش فيها أكثر من مليار وربع المليار من البشر.
الاعتراف والاعتذار في قرار واحد يصدر عن الكونغرس بمناسبة بدء شهر الصيام يشكلان إشارة تصالحية تدعو إلى الحوار والتفاهم. إلاّ أنّ القرار لا يعني أنّ حرب إدارة الولايات المتحدة انتهت. فالإدارة غير ملزمة وهي ترفع شعارات «دينية» ولكنها ليست متدينة في سياستها. فالسياسة في النهاية تصنعها المصالح وشركات النفط ومؤسسات التصنيع الحربي وأسواق المال واللوبيات (المافيات) وهي تشكّل مجتمعة قاعدة للحراك وترسم خطوط استراتيجية الدولة وحدود مصالحها القومية العليا.
هذه الوقائع لا تقلل من شأن أهمية الخطوة التي قرر الكونغرس اتخاذها في لحظة تاريخية انتقالية كادت أنْ تضع البشر أمام احتمالين: أمّا استكمال المواجهة إلى أمد غير منظور وأمّا إعادة ضبط التدافع تحت سقف إنساني حضاري مشترك.
خطوة الكونغرس كانت ضرورية لتوضيح الإطار العام لمعركة مفتعلة كان لابدّ منها لتسديد الصدمة الحضارية حتى تنجلي الصورة وتتوضح معالم طريق تعطل المرور عليه بسبب الغموض الذي استخدمه «المحافظون الجدد» وراهنوا عليه لتمرير استراتيجية أشعلت جبهات عسكرية تحت عنوان «المعركة الدولية لمكافحة الإرهاب». فهذا التيار الأيديولوجي الغبي أعتقد أنّ المعركة ضد الإسلام سهلة ويمكن كسبها ببساطة كما حصل في معارك «الحرب الباردة» ضد الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي. ولم يلحظ هذا التيار المتهور منذ البداية ذاك الفارق الهائل بين أيديولوجية سياسية وبين دين أسست عقيدته حضارات وأطلقت موجات من التقدّم في صنع تاريخ البشرية.
تيار غبي
غباء هذا التيار العنصري المتخلّف في تعامله مع الحضارات أورث المنطقة العربية/ الإسلامية سلسلة كوارث ستحتاج إلى سنوات لتجاوزها واحتواء تداعياتها السلبية التي لوّثت الذهنيات بأفكار مسمومة. ولكن هذا الهجوم المفتعل ولد من حيث لا يدري قوة مضادة وممانعة أطلقت آليات مقاومة نجحت في الحد من الخسائر وأسهمت في تشكيل وعي كانت المنطقة تحتاج إليه لتأسيس قواعد عمل أكثر مرونة في التعامل مع تعقيدات عالم تجتاحه «عولمة» معاصرة وشرسة.
صمود الإسلام في وجه هذا الهجوم العدواني الأميركي بدأ يثمر سياسيا ويعطي نتائجه الثقافية الإيجابية حتى لو جاءت التطورات في صيغة قرار متأخر يصدر عن الكونغرس. فالقرار مهم في منظوره التاريخي حتى لو رفضت الإدارة الأخذ به سياسيا ومصلحيا.
مجرد التوافق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي على تمرير قرار يعترف بالإسلام كدين عالمي ويعتذر من المسلمين عن الإهانات والتجاوزات يطلق إشارة مهمة في رمزيتها بعد معركة مفتعلة حشدت واشنطن لنجاحها كلّ ما تملكه من امكانات هائلة وقدرات من الصعب تقديرها بالارقام والموازنات.
القرار في هذا المعنى جاء ليؤكد نظريا فشل ذاك الهجوم الأميركي في تحقيق أهدافه الكبرى. فالهجوم نجح في تسجيل نقاط ولكنها لم تكن كافية لإعلان الانتصار على الإسلام. أميركا فازت عسكريا في حربين (افغانستان والعراق) ولكنها لم تنتصر سياسيا. وهذا يعني أنها أصبحت أمام خيارات قليلة وهي ضعيفة في إمكان التوصّل إلى غاياتها النهائية. وتوقيت صدور قرار الكونغرس في شهر رمضان يمكن اعتباره بداية معقولة لإعادة الاعتبار وتعيين المدخل العادل لتصحيح علاقات التبس فيها الدين بالسياسة.
قرار الكونغرس ليس الإشارة الوحيدة في هذا الاتجاه وانما ايضا استطلاعات الرأي في أميركا أشارت إلى بدء فوز الإسلام بالاحترام الثقافي والتقدير السياسي لسلوكه الإنساني. الشارع نفسه أخذ يتحوّل وبدأ يذهب باتجاه معاكس لسياسة إدارته.
إلى الشارع هناك الكثير من مواقع القرار ومراكز القوى وكبار الشخصيات الفكرية والسياسية والاعلامية أخذت تعلن انحيازها للإسلام في المعنى الذي عبر عنه قرار الكونغرس الآخير. وفي حال مراجعة المقالات والتعليقات والدراسات والتصريحات التي أخذت تصدر في السنة الآخيرة بشأن الإسلام والمسلمين والعالم الإسلامي ومقارنتها بتلك الشتائم والسباب والتحقير والاهانات التي نشرت في وسائل الإعلام على أثر هجمات سبتمبر يمكن اكتشاف ذاك الفارق الكمي والنوعي في التعامل مع دين كان له أثره التاريخي في صنع الذاكرة الإنسانية وابتكار هوية سوية ومتقدّمة لعلاقات البشر. فالإسلام جاء في الترتيب الزمني بعد اليهودية والمسيحية ولكنه كان سبّاقا في تأكيد التنوّع والاختلاف والتعدد واحترام الآخر، وخصوصا في مسألتي: الاعتراف والاعتذار.
هذه التحوّلات الإيجابية لا تزال طرية وناعمة وتحتاج إلى عناية ومتابعة، ولكنها تؤشر على بدايات إيجابية يمكن إعادة توظيفها في محطات لاحقة. فالمعركة لم تنته وهي تحتاج إلى امكانات وطاقات وجاهزية نفسية وذاك الاستعداد الثقافي للممانعة والتضحية من أجل الخير العام للإنسان. وحتى تذهب المعركة (التدافع الحضاري) في الاتجاه الصحيح فإنها تحتاج دائما إلى عقول ناضجة تستطيع ملاحظة التحوّلات وتتابع بوعي حركة الواقع وتلك الآليات التي تتحكم بقوانينه.
قرار الكونغرس بشأن الإسلام إشارة إيجابية لابدّ من التقاط رمزيتها الثقافية والسياسية. فالإشارة متأخّرة وغير كافية ولكنها تشكّل خطوة نوعية مهمة كان لابدّ منها لتصحيح علاقة مستقبلية التبست سياسيا بسبب رفض الآخر الاعتراف بالإسلام والاعتذار من شعوبه.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1858 - الأحد 07 أكتوبر 2007م الموافق 25 رمضان 1428هـ