المراقب لما يجري منذ مدة وجيزة بين طهران وواشنطن من «مواجهة» واستقطاب حادينِ على المستوى الدعائي والإعلامي والدبلوماسي يكاد يستنتج أنّ الحرب أو المواجهة العسكرية واقعة لا محالة بين الجانبين في أية لحظة ولاسيما عندما يسمع بين الفينة والأخرى بأن الخطط لضرب إيران باتت جاهزة ولا ينتظر صاحب القرار الأميركي سوى اللحظة التي يقع فيها الخصم فريسة أوّل فخّ ينصب له!
لكن عقلاء المراقبين يقولون إنّ كل مَنْ يتعمّق ولو قليلا في الوضع الأميركي المزري وهو منتشر على امتداد «الهلال الإسلامي» - والتعبير للأميركيين أنفسهم - منهك القوى وهو يعاني من إجهاد بليغ والتزامات كبرى تجاه الساحات المفتوحة على امتداد الهلال الآنف الذكر، سرعان ما يكتشف أنّ الأمر ليس بهذه البساطة والأهم من ذلك أنّ كل ما يجري من عرض للعضلات ليس بعيدا عن الأهداف الدعائية والإعلامية والدبلوماسية المرسومة بعناية في دوائر صناعة القرار الأميركي من أجل ابتزاز إيران إلى الحد الأقصى الممكن وجرّها إلى طاولة المفاوضات وهي منهكة القوى والإرادة والقرار قبل الدخول إلى مفاوضات جدية يستعد لها المجتمع الدولي مع دولة أثبتت أنها قادرة على مواجهة الحرب الباردة المفتوحة ضدّها منذ أعوام بكلّ حنكة ومسئولية حساب!
ويضيف المراقبون العقلاء هؤلاء بأن إيران من جهتها وهي التي أدركت مبكرا أنّ الخصم يعمل بعناية بالغة على انجاح خطته الآنفة الذكر بأي ثمن كان وهي التي علمتها الحرب العراقية الإيرانية كلفة المواجهات الشاملة من النوع الذي تفرضه القرارات الجنونية من جهة، لكنها التي تعلمت أيضا مذهب إدارة المواجهات المتعددة بلغة الحرب بالباردة وخطابها خلصت إلى قناعة راسخة مفادها أنّ ما تأخذه بالصبر على الأذى و»المظلومية» ولو بعد حين قد لا يقل أهمية من هزيمة الخصم في ميدان القتال، قررتْ أنْ تواجه الخصم بالسباحة بالاتجاه المعاكس لتياره الذي يبدو جارفا ولكن تفادي الصدام معه قدر الإمكان.
إنها معادلة الكر والفر الإيرانية إذا القاضية ببساطة بتوظيف الوقت إلى أقصى الحدود للوصول بالخصم إلى طاولة المفاوضات الحقيقية وهو في حالة الإعياء أوأشبه بمن شارف على الوفاة!
لذلك، ثمة مَنْ يرى في طبول الحرب التي تقرعها بعض الدوائر الأميركية بانها ليست سوى زوبعة في فنجان وآخرون يرون فيها «تلويح بالموت حتى تقبل إيران بالحمى» كما يقول المثل المعروف وهو ما شرحناه آنفا غير أنني أجدها أقرب ما تكون إلى حرب استنزاف للموارد بلعبة أشبه ما تكون بلعبة القمار وهي اللعبة التي يتقنها الأميركي قطعا بتفوق كبير ويراهن على ربحها بكلّ ثقة فيما يحاول الإيراني تفاديها بكلّ تصميم وهو واثق بأن مَنْ يلعبها معه لابدّ أن يكون هو الخاسر الأكبر مهما وضع من أسهم عالية في سلّة القمار!
فايران تعرف تماما بأن المعارك الكبرى باتت مترابطة ليس في الهلال الإسلامي فحسب بل وعلى الصعيد الدولي ولم يعد بالمكان فصلها عن بعضها بعضا مهما حاول الأميركي «المتشاطر» وبعض مَنْ يصدّقه من المنبهرينَ بقوّته أو بسطوته من أبناء الأقليم، أن بالإمكان مقايضة الإيراني بملف على حساب ملف أو مفاوضته «بالمفرد»، أو إغرائه في هذه الساحة أو تلك فهو مصمم على الصبر على الخصم «حتى يقطع أنفاسه» كما يقول بعض العارفين وساعتها فقط سيتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض في يوم الشرق «الأوسط» الجديد!.
ثم هاهي خريطة النزاعات الإقليمية الأساسية المترابطة تكشف عن نفسها بكلّ وضوح!
فالعراق الجديد الذي ظنته أميركا مرتعا ومستقرا لعظمة أمبراطوريتها وإغراءاتها الديمقراطية والتحررية بعد اجتياحها السهل له، بالغ من أنه ذاهب إلى مزيد من الاضطراب والفوضى وانعدام الأمن وإلى مزيد من التقسيم والتفتيت والشقاق والنفاق إلا أنه ذاهب وبكل قوة إلى التفلت من هيمنة الأمبراطورية والانتصار عليها مع كلّ يوم إضافي يمرّ على بلاد الرافدين المظلومة!
وفلسطين الجرح الدائم والمزمن ليست بأحسن حال من العراق إن لم تكن ذاهبة إلى الأسوأ بسبب ما تعاني منه أحيانا من ظلم بعض من أهل بيتها لها ممن راهنوا ولايزالون على اللمعان الأمبراطوري ودائما مما يحضر لها من الطامعين بما تبقى من خارطتها وأفخاخ الخريف القادمة على الطريق لن تكون نتائج لعبتهم أفضل حال من سابقاتها إنْ لم تكن أسوأ وأشد وطأة على المستعمر وأدواته الكبار والصغار!
ولبنان الموضوع على أجندة اللحاق القسري بالجرحين النازقين في إطارالفتنة الكبرى فإن المؤشرات وعلائم الانفراج القادمة إلينا من بلاد الأرز الشامخة تؤكّد جميعا بأنه لا يزال في موقع الممانعة والمقاومة وبعقلانية منقطعة النظير رغم كلّ الأهوال والترويعات المحيطة بالمقاومة والمقاومينَ!
من جهة أخرى فإنّ الذي يعرف المدرسة الإيرانية في التفكير وهو يعيش هذه الأيام المباركة من الشهر الفضيل وليالي القدر العظيمة حيث ذكرى استشهاد رسول الإنسانية كما يصفه العلاّمة الكبير جورج جرداق، لأبدّ أنه سيستحضر في هذا السياق ذلك القول الشهير لسيد البلاغة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يكتب لعامله على مصر مالك الأشتر ما نصه. «وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمَنْ سواهم، ولا صلاح لمَنْ سواهم إلاّ بهم؛ لأن الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة، ومَنْ طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلاّ قليلا».
وإيران التي نعرف، نأمل أنْ يكون تصميمها هو في الجمع بين مواجهة التحدّي وبين استجلاب الخراج وعمارة الأرض وليس الفصل بينهما أو إضفاء الأولوية لبعد على حساب بعد آخر.
ولا يخفى هنا على اللبيب من أبناء الأمّة مدى الفرق الكبيربين النهجين فالأوّل يعطي الأولوية لإدارة البلاد وعمارتها خدمة للعباد، فيما الثاني يستغرف في إدارة الأزمة لصالح بقاء أصحاب السلطة أياما إضافية بأي ثمن كان! أي الوقوع في الفخ المنصوب، لكن مَنْ يعرف حالة الأمّة المترابطة قضاياها كما اشرنا يعرف تماما بأن حالها ليس هو الحال الأنسب في كلّ مكان فهي تعيش من جهة تحت وطأة قانون الغلبة الخارجي الظالم فيما هي مستغرقة في التخلّف المعرفي من جهة أخرى وبالتالي فهي منشغلة بإدارة الأزمة والتعايش معها في أماكن كثيرة أكثر مما هي بصدد اجتراح الحلول المناسبة لإدارة الحكم والصراع مع التحديات الداخلية والخارجية، الأمر الذي يجعلنا طعمة للتجارب الاستعمارية وفريسة سهلة للأفخاخ المنصوبة من قبلهم إلاّ ما ندر!
ففي العراق كما في فلسطين كما في لبنان فإنه ثمة مَنْ يعمل على إدارة الأمور على قاعدة الشركة «الاستثمارية» الاستعمارية الشرهة والمفتوحة نفسها على النهب السريع والفعال والمزرعة المفتوحة آفاقها على شركاء لا يستحون ولا يخجلون في إعلان نواياهم للفتك بكل شيء وطني والنيل من كرامة الأمّة ومصادرة كلّ ما تختزن من مقدرات ومقاومات. وهذه أمور تدعو إلى التأمّل الطويل فيما نحن فيه من هلاك متعمّد للبلاد والعباد لحساب طالبي الخراج و»الخوات» من الأجانب الطامعينَ في ثرواتنا ومن بطانتهم التي تستظل بظلهم «الوارف» والذين يعملون صباح مساء للانقضاض على ثرواتنا ونهبها مرتين، مرّة باسم الديمقراطية والتحرر من الاستبداد فيسقطون الهيكل على رؤوسنا جميعا، ومرّة باسم «إعادة الإعمار والبناء» وكلاهما براء من «حرامية بغداد» الدوليين الجدد والذين يجب أنْ نواجههم بالاتحاد أوّلا وباليقظة ثانيا لمنعهم من تكرار فعلتهم النكراء في أية عاصمة عربية أو إسلامية جديدة!
وهذا يتطلب أنْ ندير أمورنا بأكثر من عينين مفتوحتين وأن نبصر العالم ونواجهه بعيون إضافية ثلاثة هي: العزيمة والعلم والعقل!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1857 - السبت 06 أكتوبر 2007م الموافق 24 رمضان 1428هـ