مضت 34 سنة على حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. وسنويا تمر الذكرى التي تصادف وقوعها في شهر رمضان لتعيد طرح السؤال: ماذا جرى في ذاك اليوم؟ فهذا اليوم (6 أكتوبر) تمثلت فيه مجموعة إيجابيات بدءا من التفاهم المصري - السوري الذي أكد على ضرورة استعادة ما أخذ بالقوة من طريق القوة وانتهاء بإعادة الاعتبار للكرامة العربية التي خذلت في حرب 5 يونيو/ حزيران 1967.
شكل ذاك اليوم مفاجأة استراتيجية لدولة اعتبرت أنها وجهت ضربة قاضية للدول العربية ولم يعد بإمكانها استعادة وعيها أو توازنها الذي فقدته في أقل من أسبوع. فالهجوم العسكري الذي باشرته مصر وسورية على جبهتي السويس والجولان رد بعض الاعتبار حين اكتشفت “إسرائيل” أنها دولة قوية ولكنها ليست قوية كفاية إلى درجة لا تقهر أو تهزم. فاحتمال القهر وارد كذلك إمكانات الهزيمة وهذا ما جعلها تطلب النجدة العسكرية من الولايات المتحدة لمنع تطور الهجوم الميداني وتحوله إلى انكسار سياسي.
دخول أميركا مباشرة على خط الحرب عدل زوايا الصورة وأعاد طرح مجموعة أسئلة تتصل باستراتيجية المواجهة مع الدولة العبرية. وقبل أن تتوقف الحرب التي أسفرت عن معادلة سلبية (لا غالب ولا مغلوب) بدأت واشنطن تتحرك على خطين: الأول مد “إسرائيل” بالدعم العسكري وتعويضها ما خسرته من معدات وآليات وذخائر وتزويدها بصور الأقمار الاصطناعية التي حددت مواقع وثغرات في الجبهتين السورية والمصرية. والثاني بدء النشاط الدبلوماسي بإشراف وإدارة وزير الخارجية هنري كيسنجر الذي قام بجولات مكوكية بين تل أبيب والقاهرة ودمشق بهدف وقف إطلاق النار والتفاوض على مصير الأراضي العربية التي احتلت في العام 1967.
نجح كيسنجر دبلوماسيا في فك ارتباط مصر وسورية العسكري وأخذ يعمل سياسيا على منع الدول العربية من العودة إلى فكرة التضامن القومي التي تجلت مظاهرها في عنوان كبير وهو استخدام النفط كسلعة استراتيجية للضغط على أوروبا والولايات المتحدة.
حرب أكتوبر شكلت مناسبة للدول المنتجة للنفط (منظمة أوبك) فتحركت باتجاهين: الأول قطع إمدادات النفط عن الغرب. والثاني رفع أسعار برميل النفط أربعة أضعاف في أقل من شهر.
دخول النفط على خط حرب أكتوبر شكل خطوة نوعية في التوازنات الدولية إذ تحولت الحرب الإقليمية - الحدودية في دائرة “الشرق الأوسط” إلى حرب اقتصادية عالمية ورفعت قضية فلسطين إلى رأس جدول الأولويات الدولية منذ ذاك الوقت. وأدى هذا التحول النوعي في التعامل مع سلعة النفط إلى ظهور الدول المنتجة كقوة سياسية في ساحة الصراع الإقليمي بسبب نمو دور ما عرف لاحقا بـ “البترو دولار”.
“البترو دولار” تحول إلى سلعة نقدية تلعب دورها كاحتياط يتراكم في التوظيفات والاستثمارات والودائع وأيضا شراء البضائع من أوروبا وأميركا. فالسلعة النقدية تعني ارتفاع عملية الطلب على الحاجات المستوردة من الغرب وأيضا زيادة إنتاج المصانع وتحريك عجلات الاقتصاد العالمي.
حرب أكتوبر كانت شاملة في أبعادها إذ تجاوزت من دون خطة مبرمجة خصوصيتها الفلسطينية والعربية والقومية وتحولت إلى رمزية تشير إلى وجود مجموعة قضايا دولية أخرى مرتبطة بموقع المنطقة الجغرافي وأهميتها الاستراتيجية في تعديل توازنات القوى الاقتصادية.
أدى هذا البعد العالمي لحرب أكتوبر إلى زيادة جرعة التدخل الدولي في شئون المنطقة وبدأ التحرك الأميركي يتجه نحو تعطيل الفكرة العربية من خلال تفكيك الأطر العامة التي تستند عليها النزعة القومية والوحدوية. ونجح التحرك الذي قاده كيسنجر في فك الارتباط بين سورية ومصر. فالأولى اتجهت إلى اعتماد سياسة اللاحرب واللاسلم وتوقيع اتفاقات تؤكد على تجميد الوضع العسكري على جبهة الجولان. واتجهت الثانية نحو السلم وتوقيع اتفاقات تقضي بإعادة الأراضي المحتلة مقابل تطبيع العلاقات الدبلوماسية.
نتائج متعارضة
خلاصات حرب أكتوبر كانت معقدة ومتداخلة ومتعارضة في نتائجها. فهي بدأت قومية في رمزيتها وانتهت قُطرية في وقائعها. وهي تشكلت في ضوء خصوصية عربية وتحولت إلى قضية دولية تمس الاقتصاد العالمي وتوازنه النقدي والإنتاجي والسلعي. وهي انطلقت بهدف تحرير أراضي 1967 واستقرت على اتفاقات وتوافقات أنهت الصيغة القومية للقضية الفلسطينية وفتحت الباب أمام نمو نزعات كيانية خاصة ظهرت نتائجها ميدانيا في الصراعات القُطرية ومواقع النفوذ ومراكز القوى.
الآن وبعد 34 سنة على تلك الحرب لاتزال الأمور تراوح مكانها. فأكتوبر عسكريا كان آخر الحروب العربية - الإسرائيلية إذ ستتوقف بعده آلة الصراع على مختلف الجبهات باستثناء الجبهة اللبنانية - الفلسطينية. وأكتوبر سياسيا كان المشهد الأخير في إطار التضامن القومي إذ ستعقبه مشاهد أخرى متعارضة مع شروط الفكرة العربية الوحدوية. وأكتوبر اقتصاديا شكلت تلك الخطوة الحاسمة في شد انتباه العالم إلى خطورة منطقة “الشرق الأوسط” ودور النفط كسلعة استراتيجية في التأثير على الاقتصاد العالمي.
أسوأ ما في نتائج حرب أكتوبر كان الإعلان عن بدء انهيار الفكرة القومية العربية ميدانيا وتحولها من مشروع عملي إلى نظرية مجردة وغير متفاعلة مع الوقائع الجارية في ساحات الأمة من المحيط إلى الخليج. فبعد توقف الحرب وتوقيع الاتفاقات الثنائية برعاية كيسنجر سيرتفع منسوب قدرة الولايات المتحدة على التأثير في شئون المنطقة العربية مقابل تراجع الفكر القومي العربي وظهور الكيانات كصيغ نهائية للدول الوطنية.
بعد العام 1973 ستتوقف الجبهات العربية عن إطلاق النار وتدخل الساحة اللبنانية معترك الحرب القومية كقوة منفردة في مواجهة المشروع الأميركي - الإسرائيلي. فهذا البلد الصغير تحول بوعي منه أو من دون إدراك أو تخطيط إلى ساحة مفتوحة ومكشوفة لمواجهات مستمرة ومن دون انقطاع. أرض هذا البلد شكلت ذاك التعويض السياسي عن غياب الفكرة القومية وانهيار التضامن العربي وعجز الأنظمة المعنية بالتحرير عن تحمل مسئولياتها لعوامل مختلفة تتعلق بضعفها البنيوي وعدم جاهزيتها أو استعدادها لتحويل كلامها إلى أفعال ميدانية.
بعد أكتوبر ستقع الكثير من الحروب الإسرائيلية - اللبنانية أو الإسرائيلية - الفلسطينية على أرض البلد الصغير. ولكن تلك الحرب “القومية” الموقوفة يرجح ألا تقع لاعتبارات كثيرة منها تلك الاتفاقات التي أشرف كيسنجر على توقيعها في العام 1973.
حروب لبنان ضد “إسرائيل” أو حروب “إسرائيل” ضد لبنان التي تكررت وتنوعت وأخذت أشكالا مختلفة منذ العام 1978 إلى العام 2006 كشفت عن ضعف الفكرة القومية وانهيار منظومة الدفاع العربية وتفكك نظرية الوحدة وتبعثرها إلى أشلاء كيانية (قُطرية) غير قادرة على الفعل أو الدفع باتجاه إعادة هيكلة قواعد الدفاع العربي. فهذا البلد الصغير استقرت فيه “الفكرة القومية” ولم تغادره حتى الآن وهو لايزال يعاني من دفع ضريبة الغياب العربي وعدم قدرة النظام العربي ومنظومته الإقليمية على إنتاج خيارات بديلة ترفع عن لبنان تلك الكلفة العالية التي تفوق إمكاناته ومساحته وقدرته على تحمل الأعباء.
فضلا عن اختصار المعركة القومية واختزالها في مساحة صغيرة، زاد الطين بلة أن الكثير من دول الجوار القريبة أو البعيدة أخذت تعتمد على لبنان بصفته يشكل تلك الجبهة الأمامية لحماية أنظمة غير قادرة على تحويل خطاباتها الأيديولوجية من شعارات لفظية إلى ممارسة سياسية عملية. فهذه الأنظمة القريبة والبعيدة انكشفت قوتها وانفضحت تهديداتها اللفظية إبان العدوان الأخير على لبنان. فالحرب التي استمرت نحو 34 يوما كانت كافية لاختبار مدى الاستعداد والجاهزية. وهذا النوع من الاتكال الإضافي رفع من حمل الأثقال وأخذ يعرض البلد الصغير إلى انقسام سياسي وفوضى أهلية. وفي حال انشطر البلد على غرار “النموذج العراقي” تكون الجبهة الأخيرة في مواجهة العدوان الأميركي - الإسرائيلي قد استنفدت أغراضها ودخلت في غياب قسري يشبه تلك الجبهات العربية التي توقف إطلاق النار فيها بعد العام 1973.
أمس كانت ذكرى مرور 34 عاما على آخر الحروب العربية - الإسرائيلية. ومضى اليوم من دون انتباه يذكر في اعتبار أن فكرة الصراع القومي مع “إسرائيل” غابت عن الساحات ولم تعد “العروبة” تشكل ذاك النبض الحيوي الذي يحرك المشاعر العربية ويوحد المصير المشترك. وهذه الحال السلبية واليائسة التي تأسست بعد العام 1973 تعتبر من أسوأ نتائج حرب أكتوبر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1857 - السبت 06 أكتوبر 2007م الموافق 24 رمضان 1428هـ