من لم يُتَح له إلاّ سماع التنابز الفج لرئيس جامعة كولومبيا لي بولينغر من على منبر علمي رائد وفي حضرة «الضيف» الإيراني أحمدي نجاد سيعلم أن الرجل متصهين بامتياز، ومن أُتيح له أن يستمع لرد «الضيف» على شتائم رئيس واحدة من أهم خمس جامعات في العالم، وتضم أربعة آلاف أستاذ جامعي، سيُدرك أن بولينغر فاشل، ولا يملك من اللياقة الأكاديمية ولا من الذوق شيئا يدفع لأن يُعبّر الواحد منا عن شعوره بأكثر من هزة كتف، فالرجل لم يستطع إلاّ أن يتمثّل في رواية الكاتب الكندي تيموثي فيندلي «No Wanted On The Voyage» واجتراره للممارسات الكولونياليّة وادعاء السلطة والصوت والسيطرة على الكلمة حيث الإمساك بناصية وسائل التأويل وتكريس موضوعات التدمير والخلاص الأساسية، وهو وفي سبيل دفاعه عن نفسه وعن دعوة الجامعة لأحمدي نجاد لإلقاء خطاب في إحدى باحاتها انزلق في مسبّة فاضحة جعلته ينسى بزّته الأكاديمية، وظهر أمام الجالسين على أنه فاقد لأبسط أنواع التعامل بعدما ردّ عليه نجاد «بأن تقاليدنا وثقافتنا تمنعنا من إهانة ضيوفنا مهما اشتدت الخلافات وتناقضت المواقف، وإن ما قلتَهُ هو إهانة للحاضرين». نجاد شرع في مرافعة دينية وقومية / سياسية ناجحة، وتكلّم بثغر باسم عن سلمية برنامج بلاده النووي وعن الإنجازات العلمية التي توصلت إليها وانتقد إدارة واشنطن لأزمات العالم وما خلّفته من إراقة للدم وإشاعة التدمير، ووصّف القضية الفلسطينية متسائلا: «ما هو الذنب الذي ارتكبه الشعب الفلسطيني حتى يتعرض للقتل والتشريد يوميا منذ ستين عاما ولأن يدفع ثمن مجازر الغرب ضد اليهود»، وكانت تلك الإشارات من نجاد تمردا جريئا ضد الإيكولوجيا البشرية بالفهم الغربي ونهمها في الصراع على الحيّز الجغرافي، بل كانت تلك الإشارات بمثابة الحملة المضادة ضد الفلسفة الذرائعية الأميركية وعلى المجموع العضوي وبُنيته الفوقية وحتمياته. وعلى رغم كل ذلك التوسّل والمحاباة للثقافة الإمبريالية وللوبيات ولليمين المسيحي فقد خسِر بولينغر معركة هي دون الخَضَاض، فشتمته كوندوليزا رايس، وأعرض عنه جون بولتون، واستهجنته هيلاري كلينتون، وغَضِبَ عليه شيمون بيريز، وانتقده نواب الكونغرس وهددوه بوقف مساعداتهم المالية للجامعة لأنها أعطت لنجاد منبرا فيها، ثم إنه خسر هيبته الأكاديمية أمام العالم بسبب حديثه غير اللائق بحق ضيفه، ولم يبقَ له إلاّ أن يتحسّر على فعلته وعلى ما ناله أحمدي نجاد من حظوة إعلامية نادرة وفرصة للحديث السياسي في ممالك الإيباك، وربما سيذكر التاريخ تعامل بولينغر السيئ كما ذكر لنا الكثير من الأفعال الغَرُوب التي عادة ما تأتي من كُوّة التصنيم الأميركي للتاريخ الصهيوني المُسيّس الذي بات أحوج ما يكون إلى نَظَر في ظل انقلاب موازين ابستيمولوجية، وإلى تأويلات بديلة تسدّ مسدّ التفسيرات الرائجة التي هي اجترار لغش فكري متداول، ويبقى السؤال المهم اليوم هو: «هل بعد هذه السُبّة التي مرّغ بها بولينغر سمعة جامعة كولومبيا وجاهة لأن يبقى فيها رئيسا، أم أنه يحتاج إلى «جلوة» أكاديمية على غرار ما يفعله بدو الصحراء في مقاتل رجالهم ؟!».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1854 - الأربعاء 03 أكتوبر 2007م الموافق 21 رمضان 1428هـ