العدد 1854 - الأربعاء 03 أكتوبر 2007م الموافق 21 رمضان 1428هـ

المحيط اللبناني بين والي عكا ووالي الشام

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

وسط حرائق تضرب مناطق مختلفة من جبل لبنان وتدمر الغابات الخضراء الجميلة يعيش هذا البلد الصغير حالات قلق خوفا من اندلاع ذاك الحريق السياسي في حال لم تتوصل الأطراف إلى توافق وطني على اختيار رئيس جديد للجمهورية في الموعد الذي حدد في 23 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.

لبنان السياسي لا يختلف كثيرا عن لبنان الجغرافي. فهذا البلد الصغير والجميل عرضة للعواصف الطبيعية التي تضربه شمالا وجنوبا وغربا وشرقا. في فصلي الصيف والخريف يتعرض لموجات حرارة وعواصف رملية وساخنة تعصف به وتجتاحه برا وجوا فترتفع فيه الرطوبة والسخونة. وفي فصلي الشتاء والربيع يتعرض لموجات صقيع وعواصف ثلجية وباردة تعصف به وتجتاحه برا وجوا لتصطدم بالمرتفعات الجبلية الشاهقة فتكتسي الغابات باللون الأبيض.

حتى اسم لبنان اشتقت مفردته من اللون (اللبن) لكثرة تساقط الثلوج على سلسلة جباله الممتدة من مرتفعات المكمل في الشمال إلى هضاب جبل عامل في الجنوب. فالجغرافيا اللبنانية هي جزء من المحيط الطبيعي للمنطقة كذلك الجغرافيا السياسية. فهذا البلد تاريخيا كان ولايزال عرضة للمناخات والرياح التي تعصف بالمحيط والجوار الطبيعي. السياسة في النهاية هي مزيج كيماوي يتركب من مجموعة مواد تعود إلى عناصر مختلفة. والمزج الكيماوي للسياسة يخضع بدوره لعوامل الطبيعة والمواد التي تحتويها المنطقة. فإذا كان المحيط الجغرافي يتمتع بالهدوء والاستقرار والتضامن فإن لبنان سيشهد بطبيعة الحال بعض ذاك الهدوء والاستقرار والتضامن. أما إذا كانت المنطقة تعيش لحظات قلق وتوتر وتنافر فإن البلد الصغير لن يكون كالطائر يغرد خارج السرب.

لبنان السياسي الآن يعيش حالات من الاضطراب والفوضى وهي حالات ناتجة في صورة من صورها من الداخل ولكن هناك مظاهر كثيرة وأساسية ناجمة عن انعكاس صورة المحيط في المرآة اللبنانية الدقيقة والحساسة في التقاط الموجات الساخنة والباردة في الدائرة الجغرافية الكبرى (الشرق الأوسط).

لبنان ينتظر الانتخابات الرئاسية بعد أن فشلت الجلسة الأولى في 25 سبتمبر/ أيلول الماضي في جمع النصاب القانوني لدورة الاقتراع. وهو الآن يعيش حالات توتر ساخنة تشبه تلك العواصف الحارة التي ضربت جباله الجميلة الخضراء في اليومين الماضيين. وهذا الوضع المشحون بالإضطراب النفسي ليس جديدا على البلد الصغير، فهو تقليديا كان يخضع تاريخيا لتأثيرات المحيط السياسي ودور الجوار في صنع شخصيته وتحالفاته وتوازناته.

السياسة تشبه الطبيعة وهي عرضة للتحولات والمتغيرات في المحيط الإقليمي. فأحيانا تشهد موجات ساخنة وأحيانا تشهد موجات باردة. وكل هذا خارج الإرادة وفوق الاختيارات لأن شخصية الدول تتركب كيماويا من مواد طبيعية وغير مستوردة. والدولة تأخذ شخصيتها السياسية من ثقافة الجوار وما تنتجه من مواد أولية.

هذا القانون الطبيعي - الجغرافي لا يختلف في مزاجه البيئي عن القانون التاريخي - السياسي الذي أحاط بهذا البلد الصغير منذ القرن السادس عشر. فمنذ تلك الفترة تحول «جبل لبنان» إلى دائرة تتعايش أو تتخبط في وسطها تجاذبات إقليمية كانت تساهم في لعب ذاك الدور المؤثر في صنع شخصيته وثقافته وتحالفاته وتوازناته. وشكل هذا القانون المركب من الجغرافيا والتاريخ والطبيعة والسياسة «عقدة ايديولوجية» أسست شخصية خاصة شبه مستقلة وفي الآن مرتبطة بتوازنات المحيط واضطراباته.

في الماضي كان «جبل لبنان» يخضع لتقلبات والي الشام (دمشق) ووالي عكا (فلسطين). وكان أمراء الجبل يميلون تارة لوالي عكا وطورا لوالي الشام. وأحيانا كان الأمراء يوازنون بين الطرفين المجاورين في إطار سلطنة مركزية (اسطنبول) توزع الصلاحيات على الولاة (وكلاء الدولة في الممالك أو السناجق).

وفي حال مراجعة «تاريخ لبنان الحديث» يمكن تقديم عشرات الأمثلة التي تؤكد مدى ارتباط أمراء الجبل في توازنات المنطقة والمحيط الجغرافي - السياسي. وهذه الحال لم تنقطع إلا في ظروف استثنائية. وحين تنقطع لفترة تعود من جديد القوانين (الجغرافيا السياسية) لتستأنف دورها كما جرت العادة.

الطبيعة والتاريخ

بدأت هذه القاعدة الطبيعية التاريخية في شبكة العلاقات الإقليمية تأخذ بُعدها السياسي حين قرر السلطان العثماني سليم الأول توسيع دائرة السلطنة بالدخول إلى المنطقة العربية (بلاد الشام ومصر) في العام 1516 - 1517. آنذاك كانت مصر والشام تقع تحت مظلة الحكم المملوكي وبعد نجاح السلطان سليم في كسر شوكة المماليك العسكرية في معركة مرج دابق انتقل الولاء للعثمانيين. وقرر أمراء جبل لبنان في تلك الفترة دعم السلطان العثماني عسكريا الأمر الذي شجع اسطنبول على تعزيز سلطة المعنيين المحلية، واستفاد الأمراء المعنيون في تطوير الحكم الذاتي في الجبل وتدعيم قواعد نسبية للاستقلال عن نفوذ الواليين في الشام وعكا.

اتخذ الأمير فخر الدين المعني الثاني من الشوف مركزا لإدارته الذاتية وتحولت بعقلين ودير القمر إلى عاصمة محلية لدولته. ونجح الشوف (وهي المنطقة التي اجتاحتها الحرائق والعواصف الساخنة في اليومين الماضيين) إلى نقطة انطلاق لتوسيع الامارة المعنية التي امتدت شمالا إلى عكار وجنوبا إلى فلسطين. وأدى التوسع الجغرافي للامارة المعنية إلى الاصطدام السياسي مع والي عكا وثم والي الشام وانتهى الأمر باجتماع الولاة بإيعاز من السلطان العثماني على القضاء على تلك الظاهرة الانفصالية. ونجح والي الشام بالتضامن والتعاون مع والي عكا في كسر شوكة الأمير المعني والقاء القبض عليه وتسليمه إلى اسطنبول وإعدامه مع أسرته (أولاده) بتهمة الردة والتمرد.

بعد اجتثاث الأسرة المعنية من الجذور صعد دور الأسرة الشهابية التي اتخذت من بيت الدين (تعرضت أحراجها أيضا للحرائق في اليومين الماضيين) عاصمة للامارة الجديدة. ولكن قوانين الجغرافيا السياسية عادت لتلعب دورها في التأثير على توازنات الامارة وتحالفاتها. فالأمير الشهابي كان بدوره عرضة للضغوط من والي الشام إلى والي عكا. واستمر هذا القانون يتجاذب الامارة الشهابية داخليا إلى أن قام إبراهيم باشا بحملته العسكرية على بلاد الشام وتصادم مع السلطنة العثمانية لمدة سنوات.

في هذه الفترة انقسم أمراء جبل لبنان بين مؤيد للحملة المصرية ومعارض لها. فالمؤيد (بشير الشهابي الثاني) عزز مواقعه ومد نفوذه. والمعارض (بشير جنبلاط) دفع ثمن الولاء السياسي للسلطنة العثمانية فقُبض عليه وقُتل.

هذا الوضع الاستثنائي لم يستمر طويلا حين تحالفت السلطنة العثمانية مع أوروبا الخائفة من نمو قوة دولة محمد علي باشا في مصر فأقدمت على شن هجوم معاكس اضطر خلالها إبراهيم باشا إلى الانسحاب من بلاد الشام وعودة «الباب العالي» إلى استرداد مواقع نفوذه. وساهمت هذه المتغيرات الجغرافية السياسية في تعديل التحالفات اللبنانية والإقليمية وانتهت إلى القضاء على الامارة الشهابية التي دعمت الحملة المصرية.

إلا ان عودة العثمانيين كانت مشروطة بالدعم الأوروبي ورقابة الدولتين الكبريين آنذاك (بريطانيا وفرنسا) وهذا ما أعطى المجال لتأسيس ما عرف لاحقا بمتصرفية جبل لبنان. والمتصرفية كانت أشبه بكانتون جغرافي يتمتع سكانه (الموارنة والدروز) بهامش من الحكم الذاتي.

دخول أوروبا مباشرة على خط التوازنات في جبل لبنان لم يعدل كثيرا من المعادلة الطبيعية والتاريخية، إذ عادت الجغرافيا السياسية تلعب دورها في التأثير الداخلي والمساهمة في صنع الخيارات والتوجهات، وهذا ما يمكن ملاحظته في مختلف المحطات الزمنية من نهاية القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين. المعادلة تتغير ولكنها لا تخرج على الثوابت الجغرافية والتاريخية. فهذا البلد كان ولايزال عرضة للرياح الساخنة من العمق العربي والعواصف الباردة من العمق الغربي.

الحرائق الطبيعية التي اجتاحت جبل لبنان وتحديدا منطقة الشوف وعاليه والمتن تشبه في منظومتها الجغرافية تلك العواصف السياسية الباردة والساخنة التي تجتاح لبنان الصغير في كل فترة يشهد خلالها المحيط تحولات أو تقلبات أو متغيرات. فهذا الجبل هو جزء من الإقليم وتأثير والي الشام أو والي عكا يتراجع أحيانا ويمتد أحيانا ولكن قانون الجغرافيا السياسية (التوافق أو التجاذب) لايزال ثابتا يلعب دوره في القبض أو البسط.

لبنان إذا ينتظر بقلق انعقاد الجلسة الثانية في 23 أكتوبر الجاري لانتخاب رئيس للجمهورية وسط حرائق اجتاحت أحراجه وغاباته الجميلة الخضراء في الجبل الصغير. والحرائق الطبيعية في لبنان تشبه كثيرا تلك الاضطرابات السياسية أو حالات اللااستقرار الأمني التي تجتاح المنطقة والمحيط. فهذا البلد ليس خارج الدائرة فما يصيبها يصيبه. والطقس الطبيعي لا يختلف كثيرا في قوانينه الثابتة عن المناخ السياسي. وكما يكون الفضاء العام الذي يغلف المنطقة سيكون عليه الفضاء اللبناني في الفترة المقبلة وهي أجمالا تحسب بالأسابيع والأشهر وليس بالسنوات.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1854 - الأربعاء 03 أكتوبر 2007م الموافق 21 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً