لا أعتقد أن انتقاد أداء السياسة الخارجية الإيرانية والتعرض لعروضها الاستراتيجية في المنطقة، وأعني تحديدا استنكار تدخلاتها السافرة في العراق، سيؤدي آليا إلى تعطيل وإبطال فريضة الصيام وبالتالي انتهاك حرمة الشهر الفضيل!
فإن كنا لا ننكر المسئولية العظمى للاحتلال عن ما آلت إليه الأوضاع الحالية في العراق من بشاعة كارثية لم تتوقف منذ خضوعه لحكم الاحتلال، كما أننا لا نمارس الالتفاف والدوران فيما يتعلق بتجاهل مسئولية كبرى للدول العربية التي ساهمت هي الأخرى على صعيد دبلوماسي وميداني لوجستي في تكريس التواطؤ ضد العراق وغزوه وتدميره واحتلاله، والتي انطلق منها «مقاتلون أجانب» وساهموا في تدمير العراق، إلا أنه ولعيون الواقعية السياسية والاستراتيجية لا يمكننا أن نغض الطرف عن المسئولية الإيرانية في زيادة الأوضاع سوءا عبر تدخلات دبلوماسية واستخباراتية سافرة، ودعم ميليشيات طائفية مجرمة لم تتوانَ عن ممارسة التطهير الطائفي والعرقي في الجنوب العراقي وحتى في بغداد، أو حتى لا نمتنع عن توجيه سهام النقد المباشر وغير المباشر لهذا الطرف الإيراني الحميم، والتي أدمن توجيهها بعض المنافحين لـ «المغضوب عليهم» و «الضالين»!
وعلى رغم تفاني البعض باتباع تلفيق سياسي في الخلط بين عمليات المقاومة الشرعية التي تستهدف الاحتلال وعملائه الأوغاد، وذلك مع العمليات الإرهابية الملعونة التي تستهدف المدنيين والأبرياء العزل في الأسواق والحسينيات والمساجد، والتي لا تخدم سوى أهداف الاحتلال وأعداء العراق، فإن هذا البعض أيضا يواصل، وبخبط عشواء، تحميل أي طرف ممانع فعليا لوجود الاحتلال والمتواطئين معه كامل المسئولية عن ما آل إليه الوضع في العراق، فالجميع بنظره مذنب من عراقيين ودول جوار، وذلك من ناحية عدم احترامهم وإقرارهم بجدوى «التغيير السلمي» والعملية السياسية الجارية في العراق المحتل، والتي حصلت على قرار أزلي من «الغالبية التاريخية»!
فإن كنا نعترف بمدى الظلم والإجحاف في استثناء الدول العربية من دعم احتلال العراق وحكمه الطائفي المتواطئ معه إلا أننا لا نعرف حتى الآن ما هي تلك الجدوى الواقعية والعملية الملموسة التي عثر عليها البعض في تبني خيار الاعتراف بالعملية، أو العملة، السياسية الجارية في العراق الخاضع لنير أبشع احتلال في تاريخه؟!
وما هي أصلا انعكاسات الاستثمار السياسي لهذه العملية السياسية أو العملة والمقاولة المدفوعة الأجر والأجل على حال المواطنين العراقيين السني والشيعي والعربي والكردي والتركماني وغيرهم؟!
أولم تساهم هذه العملة والعملية ذاتها والتي استمدت شرعيتها التأسيسية الواقعية من عهد وتشريعات بريمر في إخراج هذا المواطن المسكين من جميع المعادلات السياسية والاقتصادية الوطنية عدا معادلات المحاصصة الطائفية التي يبرع في دوزنة أوتارها حفنة من العملاء والمرتزقة الأوغاد وأمراء الطوائف وتجار الحروب؟!
وألا يعد الفشل والإخفاق الذريع والمتوقع التي مني به الحكم الطائفي في العراق لأجل حماية العراقيين والاقتصاص لهم واستعادة كرامتهم من ما عكف على ارتكابه مرتزقة شركة «بلاك واتر» من جرائم بشعة في العراق المصونين بتشريعات بريمر بمثابة شهادة انتهاء الصلاحية أو الوفاة لهذه المسماة بـ «العملية السياسية السلمية» في عراق الاحتلال؟!
هذه «العملية السياسية السلمية» وخيار «الغالبية» الأزلي ما كان لها أن تستمر في تكبد أكلاف موقفها الرمزي والمتواضع في التضامن الصوري مع الشعب العراقي بعد سلسلة جرائم المرتزقة أكثر من ربع ساعة، وذلك قبل اتصال وزيرة الخارجية الأميركية ميس كوندي!
فهل أعادت خطط المحتل الهمجية لتحقيق الأمن والاستقرار لجنوده أولا، وإلقاء فتاته للعراقيين حتى تطعمهم خبزه ساخنا قشرة «العملية السياسية السلمية» تلك؟!
أم أنه وفي ظل مباركة تلك الخطط التي شاركت فيها ميليشيات وعصابات «العملية السياسية السلمية» ذهب عدد أكبر من الأبرياء والمدنيين والأبرياء العزل، فقتل من قتل، وأصيب من أصيب، واغتصب من اغتصب؟!
وفي اعتقادي أن أبرز انجازات تلك المتردية والنطيحة المسماة بالعملية السياسية في العراق هي أنها جعلت من الاحتلال في العراق ثابتا من الثوابت الطويلة الأمد، ومركزا ومنبعا لتحقيق الأمن والاستقرار في العراق والمنطقة على رغم أنه الجذر الشيطاني المزمن للكارثة!
كما أن هذه العملية ساهمت في تقديس جماعي وإن أتى بأوتار نشاز لكل من دخل العراق على ظهر دبابة أميركية، أو ملفوفا في طنفسة إيرانية، أو حتى مبعوثا في عبوة أفغانية!
فتلك المحاصصة الطائفية تجسدها ببراعة بغيضة بعض العقليات التي ترى أن خيارات حرية واستقلال وسيادة الأوطان والأبدان من الممكن والوارد جدا أن تأتي وتحل كمفرزات انتخابية ونتاجا للتحاصص السياسي، وليست هي بمبادئ مقدسة كفلتها جميع الشرائع الإنسانية؟!
أو أن يحسب لنا المتشدقون بأفضل ما يكمن من تقدير حجم الكلفة الحقيقية لتلك «العملية السياسية السلمية» الموسومة بأنها ضمن حراك التغيير، وذلك على أمد الاحتلال في العراق، وعلى ما تحقق من إنجاز يصب لصالح المواطن العراقي أولا وآخرا؟!
ومثل هذا التساؤل يحل على الأذهان في الوقت الذي تكلف فيه عبوة ناسفة مضمونة النتائج في غالبية الأحيان، وتوضع على الطريق لتستهدف المركبات العسكرية الأميركية، ما لا يزيد على خمسة عشر دولارا، وهي تساهم في استنزاف الكثير من جهد وقدرات الاحتلال التخطيطية والميدانية بحسب الإحصاءات الأميركية ذاتها ومنها ما ذكرته مجلة «نيوزويك»!
فما هي إذا نتائج ومحصلات مؤتمرات المداهنة والنفاق الرسمي، والتنابز الطائفي والتي استنزفت الكثير والكثير ماديا ووقتيا من عافية العراق والعراقيين من دون أن تحقق لهم شيئا يذكر؟!
وما أصبح معروفا وملموسا هو أنه وفي ظل مباركة الاحتلال و «العملية السياسية السلمية» في العراق، والتي لا يمكنها أن تعصم نفسها كثيرا من الارتباط بالمحتل عبر تقية سياسية ودبلوماسية غير محنكة ألبتة، أصبح العراق بلدا نضاحا بالأمية والكوليرا بعدما تميز في مرحلة سابقة، وقبل سلسلة من الحماقات الاستراتيجية، بكونه يحتضن أفضل نظم الرعاية الصحية والتعليم والبحث العلمي والتكنولوجي في المنطقة!
فهل تدين هذه «العملية السياسية السلمية» في العراق إقرار الكونغرس الأميركي لخطة تقسيم العراق في الوقت الذي انغمرت وتمرغت في أوحال المحاصصة والتقسيمات الطائفية والإثنية حتى فطست وفطسنا من رائحة تجيفها؟!
وهل من المجدي الآن من هذا البعض التأويلي أكان متبرلا عربانيا جديدا، أو طائفيا متجددا، أو كان من كان، أن يغير رطانته السياسية، ويحاول أن يحبك بعض المدلولات والمفردات السياسية والحقائق المعروفة سلفا قبل أولى ساعات الغزو بلغة فصيحة وسليمة، وذلك بعد طول تسميم لآبار الوعي الجماهيري التي أصبحت أوحالا؟!
وهل كتب لهؤلاء الأصحاب الشفاء أخيرا من الزكام السياسي والإنساني المزمن الذي أنساهم الفوارق بين ما هو زاكي ومنتن؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1854 - الأربعاء 03 أكتوبر 2007م الموافق 21 رمضان 1428هـ