العدد 1853 - الثلثاء 02 أكتوبر 2007م الموافق 20 رمضان 1428هـ

أحزان الليلة الأخيرة

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في ظلمةِ مثل هذه الليلة من شهر رمضان المبارك، قبل 1388 عاما، خرجت جنازةٌ من إحدى الدور المتواضعة في الكوفة، كان يقيم فيها رأس الخلافة الإسلامية آنذاك.

كانت آخر كلمةٍ نطق بها: «فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرا يره»، فهذا ما كان يفكر فيه الرجل العظيم، بعد أن أوصى ولده وأهله ومن بلغه كتابه من الأجيال، بتقوى الله ونظم أمرهم، وألاّ يبغوا الدنيا ولو بغتهم، وأن يكونوا للظالم خصما وللمظلوم عونا، كما أوردها الطبري في تاريخه وأبو الفرج الأصفهاني في «مقاتل الطالبيين». ولم ينس أن يوصيهم بالفقراء والمساكين والأيتام الذين كان يشغلهم أمره طوال 63 عاما، وظلّ يفكر بهم ويخاف عليهم ويقلقه مصيرهم حتى اللحظة الأخيرة.

بعد إغماضته الأخيرة، تولى غسله ابناه الحسن والحسين، وأخوهما غير الشقيق محمد بن الحنفية، وحنّطوه ببقايا حنوط رسول الله (ص) كان يحتفظ به قبل ثلاثين عاما.

لم تكن الجنازة حاشدة كما يفترض في جنازة حاكمٍ وخليفةٍ وفارسٍ كبير، ولم يعلم بها إلاّ عددٌ قليلٌ جدا من الناس، التزاما بوصيته بأن يدفن ليلا، وأن يحملوا مؤخرة التابوت «يكفيكم مقدمته» حسبما أعدّت المقادير. وهكذا خرج الموكب الحزين من الكوفة إلى منطقةٍ توجد بها أديرة للنصارى اسمها «الأُكَيراح»، (مفردها كرح، وهي بيوت صغيرة يتخذها الرهبان)، تقع ضمن الهضبة الممتدة بين النجف والحيرة، ويمر أسفلها نهر الفرات، وهي «من أصفى المناطق هواء وأطيبها ماء، حيث تكثر الينابيع والعيون» كما يقول الرواة، وظلت مكانا يتم ارتياده للاصطياف والصيد حتى العصر العباسي.

هذه المنطقة اختارها عليٌ (ع) لمدفنه حتى تهدأ العاصفة ويغيّر الله الأمور، لعلمه بلؤم خصومه الأمويين، الذين لن يتورّعوا عن نبش قبره ثأرا بعد أن تستتب لهم الأمور، استذكارا لما فعل أسلافهم يوم أحُد. وهكذا ظلّ السرّ مدفونا في صدور الثقات، حتى أيام هارون الرشيد الذي اكتشف الموقع أثناء رحلةٍ للصيد، حيث لجأت غزالةٌ إلى الربوة التي يقوم عندها القبر، فلما سأل بعض شيوخ الكوفيين استأمنه، فأعطاه الأمان، فاعترف له بأنه «قبر علي»، فأمر حينها بأن يبنى عليه دكّة.

في مثل هذه الليلة، سار الركب الصغير تحت جنح الظلام، وفوق الرؤوس تحلّق الهموم والأحزان، ليقطع المسافة بين دار الإمام وقبره المجهول، وهي «مسيرة بعير» بتعبير المؤرخ القديم، وهي نحو 9 كيلومترات بقياسات اليوم.

ربما لا يجد الباحث اليوم أسماء دقيقة للمشاركين في التشييع، لكن المتيقن أن في مقدمتهم أبناء علي وبعض أهل بيته، ومن تبقّى من الصحابة الكبار الذين ظلّوا على نقائهم الثوري من أيام الرسالة الأولى. هؤلاء هم بقية السيف الذين لم ينالوا شرف الشهادة في غزوات الإسلام الأولى، أو في حروب الردة والانقلابات على المثل، في الجمل والنهروان وصفِّين. هؤلاء بقوا حتى اليوم، ليشهدوا إسدال الستار الأخير على تلك الحياة الحافلة الصاخبة بالحركة والجهاد والتضحيات الجسام، التي لم يطلب صاحبها جزاء ولا شكورا، إلاّ إرضاء للضمير، والقيام بالواجب، وخدمة عيال الله، وانتشال الإنسانية من الظلم والاستئثار.

عاد الركب إلى الكوفة حزينا... ليقف أمام الدار التي خفّ أهلها، وانطفأ سراجها، والعالم الإسلامي على وشك الدخول في نفق مظلم طويل من الاستبداد. لقد انتهى عهد الخلافة الراشدة وبدأ عهد التسلط والاستعباد.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1853 - الثلثاء 02 أكتوبر 2007م الموافق 20 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً