بين غضبة الصحافيين واعتصامات العمال خيط متصل من الاحتقان لا يمكن تجاهله، أو الاكتفاء باتهام قوى خارجية بتعمد إثارته وتصعيده...
الأمر في حقيقته ليس كذلك، فمصر تمر الآن بمرحلة ساخنة من الحراك الاجتماعي والنشاط السياسي المتصادم، حراك يبدأ بالشكوى المريرة من الغلاء والفقر والبطالة، خصوصا من جانب الطبقات الفقيرة ومتوسطة الدخل. ولا ينتهي عند الصدام المدوي بين التيارات السياسية التي تقودها النخبة أو صفوة المجتمع، عن الحريات وضرورات الإصلاح الديمقراطي المنشود...
هناك مطالب سياسية واجتماعية ومهنية إذا، ترفعها تيارات وفئات وجماعات من صميم المجتمع، يقابلها موقف مضاد من تيارات وشخصيات في صميم جهاز الدولة الحاكم، الأمر الذي يزيد من لهيب الاحتقان الذي نتحدث عنه، والذي يعتبر الأعلى والأعنف مهددا السلام الاجتماعي كله...
ومن الواضح أن التيارات المتشددة والأجنحة الصاعدة في أروقة السلطة، قد ضاقت ذرعا بما تسميه حالة الانفلات السارية في المجتمع المصري، من انفلات الصحافة إلى انفلات العمال، فقررت المواجهة العنيفة، بالعودة إلى القبضة الحديد، وها نحن نرى تصعيدا للمواجهة بين الدولة وفئات وتيارات مختلفة داخل المجتمع، مثل الصحافيين والقضاة والعمال والفلاحين والمعلمين والطلاب، تلك الفئات التي رفعت صوتها بمطالبها القديمة والجديدة، والتي أرهقها طول انتظار الحل والتسوية التي تلكأت في الطريق الموعود ثم تلاشت في دهاليز البيروقراطية الحاكمة!
وليس هناك عاقل إلا ويتساءل بحيرة واندهاش، لماذا هذا التعمد في تصعيد حالات الاحتقان الواسع، ولماذا الصدام المدوي مع قوى اجتماعية، تبدأ من أسفل الطبقة العاملة وأصحاب الجلاليب الزرقاء، وتصل إلى أعلى صفوة المجتمع وقواه المثقفة...
ومن واجبنا القول، إن تصعيد الاحتقان بهذه الشكل، إنما هو خطر داهم في ثلاثة اتجاهات، هو خطر على السلام الاجتماعي، وهو خطر على الأمن القومي، ثم هو خطر على حرية الرأي والتعبير بل على مستقبل أو أمل الإصلاح الديمقراطي في مصر!
ولقد التقط خبراء الخارج هذه المخاطر الجسيمة، بأسرع مما التقطها خبراء الداخل، الذين سحرتهم قوة السلطة أو سلطة القوة فمارسوا التصعيد، وزادوا من الاحتقان من دون استشراف الحريق القادم، في حين بدأ خبراء الخارج يمارسون لعبتهم المفضلة، بكشف عورة السياسات الداخلية المصرية، وخصوصا في تعاملها من العمال المعتصمين، وفي ممارساتها ضد الصحافيين...
ولعلني أطالب المسئولين بالدولة، بمجرد دراسة التأثير السلبي لمعالجة أو مواجهة أعتصام العمالة وغضبة الصحافيين، وانعكاسه على سمعة البلاد في الخارج، من خلال الانتقادات الحادة التي صدرت عن عواصم ومنظمات دولية تدين وتستنكر وتشجب ما جرى، وعلى هؤلاء المسئولين مقارنة الفائدة التي تحققت جراء الاحتقان، إن كانت له فوائد أصلا، بهذه الانتقادات الدولية الصاخبة، لكي يعرفوا أن المجتمع الدولي بحكوماته ومنظماته لم يعد غافلا عما يجري في أي دولة، ولم يعد قابلا للصمت على التجاوزات والانتهاكات التي تقع هنا وهناك!
الآن... نركز تحديدا على أزمة الصحافة والصحافيين التي تغزل خيوطها هذه الأيام في ظل الاحتقان العام المتصاعد، وخصوصا بعد سلسلة الاتهامات والاحكام القضائية المتتالية على عدد معتبر من الصحافيين، ظهرت أمام الجميع وكأنها هجمة منسقة مقصودة لإرهاب الصحافيين وترويع الآراء وتكميم حرية التعبير...
والواضح أنه لم يحدث في تاريخ الصحافة المصرية الممتد على مدى قرنين من الزمان، أن صدرت أحكام بحبس خمسة من رؤساء تحرير الصحف الحزبية والخاصة دفعة واحدة وخلال أسبوع واحد، في قضايا تتعلق بحرية النشر وباتهامات وبلاغات تدعى عليهم بارتكاب القذف والسب، فإذا أضفنا إلى هؤلاء مئات التحقيقات والقضايا المنظورة ضد صحافيين آخرين، لأدركنا حجم الأزمة وخطورة تداعياتها القائمة والقادمة!
وحجم الأزمة المشتعلة لا يتعلق فقط بعدد رؤساء التحرير المرشحين للتواري وراء القضبان، ولا بعدد الصحافيين المجلوبين للتحقيق والمحاكمة، ولكنه يتعلق أساسا بالمبدأ... مبدأ حرية الصحافة والرأي والتعبير، وحدود ممارسته، وحق أصحاب الرأي في استخدامه، وربما في التجاوز فيه أيضا والتجاوز مسموح به في النظم الديمقراطية، التي تحدد آليات محاسبة المتجاوزين، وليس من بين هذه الآليات قطعا، عقوبة الحبس لأنها سالبة للحرية.
في مصر لا يزال هناك تيار قوي داخل السلطة يعادي الديمقراطية، وويعادي حرية الصحافة بشكل أساسي، ينادي الآن بتطبيق أشد العقوبة بما فيها السجن، على الصحافيين بحجة الانفلات والتجاوز في حق المسئولين الكبار، وعلى رأسهم رئيس الدولة، وأظن أن هذا التيار المتشدد هو الذي يدفع الاحتقان سريعا للتصاعد، وهو الذي يدعي الدفاع عن رئيس الدولة ضد منتقدي سياساته، بينما الرئيس لم يعلن غضبه من النقد وهو لا يحتاج لمن يدعي التصدي نيابة عنه، فهو يملك سلطاته الواسعة وفقا للدستور!
وإلى هذا التيار المتشنج بكل أسمائه ورموزه، الذين يدّعون الدفاع عن هيبة الرئيس ومقام الرئاسة، والتصدي لأي تجاوز أو نقد يوجه من الصحافة للمسئولين، وخصوصا من الخصوم السياسيين، إليهم أهدي هذه المأثورة القانونية القضائية السياسية الكاشفة...
فقد أصدرت محكمة النقض المصرية حكما شهيرا في 6نوفمبر/تشرين الثاني1934 أي قبل أكثر من سبعين عاما. في شأن مماثل لما نتحدث عنه اليوم وقالت فيه بالنص: «من المتفق عليه في جميع البلاد الدستورية، أن الطعن في الخصوم السياسيين يجوز قبوله بشكل أعم وأوسع من الطعن في موظف معين بالذات، وأن الشخص الذي يرشح نفسه للنيابة عن البلاد، يتعرض عن علم، لأن يرى كل أعماله هدفا للطعن والانتقاد، وأن المناقشات العمومية، مهما بلغت من الشدة في نقد الأعمال والآراء تكون في مصلحة الأمة...»
هذا هو المقياس القانوني والمصباح القضائي النزيه، في تعامله مع حرية الرأي والانتقاد وصولا للطعن، نافيا فكرة تقديس المسئول أو الموظف العام، مؤكدا حرية الصحافة بصورة أعمق، من دون تأثيم أو تجريم، فهل كان المصريون العام 1934 أكثر تحررا واستنارة وديمقراطية من المصريين العام 2007!
والخلاصة... إن الاحتقان السائد هذه الأيام، ممثلا في الأزمة التي تمر بها الصحافة المصرية على سبيل المثال، ناتج عن التراجع الشديد في مفاهيم ومعايير الحرية الديمقراطية، وخصوصا حرية الصحافة والرأي والتعبير، في وقت ينعم العالم بمثل هذه الحرية المزدهرة، يمارس النقد ويعالج التجاوز ويحاسب ويسائل، لكنه لا يسجن الصحافيين وأصحاب الرأي.
ونظن أن فك هذا الاحتقان لا يتم إلا بصوغ جديد لحرية الصحافة وباقي الحريات العامة، ومفهومها ومعاييرها وحدودها، صوغ يبدأ بإسقاط العقوبات السالبة للحرية، وخصوصا عقوبة الحبس، من جميع القوانين المصرية، في إطار إصلاح تشريعي ديمقراطي جريء لكل ما يتعلق بالحريات العامة وحقوق المواطنين، ويكفل حرية الرأي وحق التقاضي أمام القضاء الطبيعي المستقل النزيه.
ومن دون هذا الصوغ وذاك الإصلاح، سنظل أسرى الاحتقان المتصاعد ويظل المتشددون يمارسون هوايتهم المحببة في قمع حرية الصحافة، ويظل الصحافيون يمارسون فضيلة الخوف أحيانا وعادة التمرد والمشاغبة أحيانا أخرى.
تصحيح واجب: ورد في مقال الأسبوع الماضي، بطريق الخطأ، اسم دولة زامبيا، بينما الصحيح أن المقصود كان زيمبابوي... لذلك لزم التصحيح احتراما لحق القارئ.
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1853 - الثلثاء 02 أكتوبر 2007م الموافق 20 رمضان 1428هـ