العدد 1853 - الثلثاء 02 أكتوبر 2007م الموافق 20 رمضان 1428هـ

«بلقنة» «قبرصة» «لبننة» «أفغنة» «صوملة» «سودنة» و«عرقنة»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل يتحول مشروع قرار «مجلس الشيوخ» الأميركي بشأن تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم إلى ذاك «النموذج» المحتذى في المنطقة أم تنجح قوى الممانعة الوحدوية في تطوير مؤسسة «جامعة الدول العربية» ونقلها من طور «الرابطة الأخوية» الأفقية إلى طور «اتحاد المصالح» العمودية؟

الانتقال من صيغة «الرابطة الأفقية» إلى صيغة «الاتحاد العمودي» يتطلب عقلية تسووية تفتقدها الكثير من النخب العربية الموزعة ذهنيا على كيانات قطرية مشتتة سياسيا من المحيط إلى الخليج. وهذا النقص في الوعي التاريخي لفكرة الوحدة القائمة على فقه المصلحة ورؤية العالم في تقدمه نحو المسار الدولي ونهوض تكتلات إقليمية كبرى، يزيد من مخاوف إمكان نجاح المشروع الأميركي في تأكيد النموذج العراقي خيارا وحيدا في المنطقة.

المعركة طويلة ولكنها تخضع في الزمن الحاضر إلى موازين قوى تبدو شروطها الواقعية غير مؤاتية لترجيح موقع تيارات الممانعة العربية الوحدوية. فأفكار الوحدة العربية والتوحيد الإسلامي متوافرة بكثرة في سوق التداول ولكنها في معظمها مثالية وايديولوجية وتفتقر إلى تلك الآليات الواعية القادرة على التعامل بعقلانية مع واقع تختلط في دائرته الأهلية مجموعة هويات تتنازع السلطة وتتدافع عشوائيا للاستيلاء على الموارد ومراكز القوة والقرار.

وهذا الضعف البنيوي يرفع من احتمالات تجدد تعثر مشروعات الوحدة العربية ويعطي في المقابل المزيد من الفرص السياسية لتمرير خطط التجزئة والتقسيم وبعثرة منظومة العلاقات الأهلية إلى «هويات» ضيقة تستظل المذاهب والطوائف والأقوام والعشائر والمناطق لتبرير وجودها بذريعة الدفاع عن حقوقها الدنيا.

هناك مشكلة فعلا وهي أساسا تتصل بتعقيدات واقع يعيش حالات ضياع في مرحلة انتقال تاريخية ربما تؤدي إلى نوع من الاحباطات الجديدة لمشروع وحدوي وتوحيدي تعثر مرارا في مساراته السياسية. وهذه المشكلة، التي تفاقمت بعد الاحتلال الأميركي للعراق، تتطلب قراءة دقيقة لفلسفة التقسيم التي تشكلت تاريخيا في مشروعات تجزئة متعارضة في مضمونها ولكنها متوافقة في جوهرها على فكرة واحدة وهي: منع العرب من بلوغ الوحدة ومنع العالم الإسلامي من العودة إلى صيغة التوحيد.

أمام «النخب» العربية الضائعة والمحتارة مجموعة خطط وقرارات تهدد إمكانات الوحدة والتوحيد وهي سابقة على قرار «مجلس الشيوخ» الذي صدر بمناسبة «العرقنة».

مفهوم «العرقنة» فكرة صنعت حديثا ولم تكن ناجزة وتم تجهيزها بعد الاحتلال واعتمادا على أدوات أهلية محلية. وهذا المفهوم الذي دخل على خطوط المنطقة يعتبر إضافة على ملاحق تم تسويقها أو تصديرها للمنطقة العربية الإسلامية منذ أكثر من قرنين. فقبل «العرقنة» هناك صيغ كثيرة وقديمة في توجهاتها واستهدافاتها ويمكن ترتيبها زمنيا في قياسات سياسية ومحطات زمنية متتالية.

أقدم مشروعات التقسيم كان «البلقنة» وبدأ تنفيذه في منطقة البلقان التي تكثر فيها القوميات والاثنيات والديانات والمذاهب والطوائف في القرن الثامن عشر بهدف ضرب مواقع السلطنة العثمانية وطردها عسكريا وسياسيا وثقافيا من أوروبا الشرقية وحوض البحر المتوسط الممتد من جزيرة كريت (اليونان) شرقا إلى جزيرة مالطا غربا.

البلقنة هي البدء

في البدء كان مشروع «البلقنة» ولم يتوقف حتى أيامنا. فهو استمر يأخذ أشكاله وألوانه بحسب الظروف امتدادا من القرن التاسع عشر وصولا إلى العقد الأخير من القرن العشرين حين انفجر الاتحاد اليوغوسلافي وتفكك إلى دويلات صربية (ارثوذكس) وكرواتية (كاثوليك) وبوسنية (مختلطة بين المسلمين والارثوذكس والكاثوليك) ولا تزال التوترات قائمة في بقية المناطق (كوسوفو والجبل الأسود).

سياسة «البلقنة» ليست الوحيدة مطروحة في وجه قوى الممانعة العربية الوحدوية. فهناك سياسة القبرصة (قبرص) وهي تقوم على تفكيك الدولة (الجزيرة) إلى نصفين: مسيحي معترف به دوليا ومسلم معزول ومهجور وغير معترف به ومنبوذ دوليا.

إلى «القبرصة» هناك «اللبننة» وهي تحويل الدول إلى «جمهوريات» طوائف تتنازع السلطة وفق معادلة «المحاصصة» وتوزيع المواقع والمراكز في سياق معادلة كيماوية تتماهى مواصفاتها الاجتماعية مع تضاريس البلد الجغرافية.

إلى «اللبننة» هناك «الأفغنة» وهي تقويض الدولة وإعادة هيكلة مراكزها وفق معادلة جغرافية/ قبلية تنشأ تحت سقفها دويلات أطراف تحيط بالمركز (حكومة كابول).

إلى «الأفغنة» هناك «الصوملة». وهي تقوم على فكرة تشطير الدولة المركزية إلى دويلات طرفية تؤسس مراكز قوى شبه مستقلة تحيط بمركز يعيش حالات من الاضطراب وعدم الاستقرار ويشكل ذاك القطب الذي يجذب العنف إلى الوسط ويمنع تفشي الفوضى الهدامة إلى زوايا جغرافية الصومال الممتدة على سواحل المحيط ومداخل البحر الأحمر.

إلى «الصوملة» هناك «السودنة» وهي تقوم على سياسة التفكيك المرحلي المبرمج في مناطق منتشرة على أطراف الدولة الشاسعة في مساحاتها الجغرافية والمتنوعة في تكوينها الثقافي وتشكيلاتها القبلية والأقوامية واللونية. وعملية تحطيم السودان بدأت تاريخيا منذ خمسينات القرن الماضي معتمدة وسائل متعددة في غاياتها وأهدافها وهي لم تتوقف في تطورها وانتقالها من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق. وفي حال استمرت العملية تسير في سياقها المبرمج فإن تشطير السودان إلى دويلات مستقلة تتمتع بأنماط من الحكم الذاتي مرتبطة شكليا بالمركز يصبح من الاحتمالات الواردة بقوة وخصوصا بعد تدويل أزمة إقليم دارفور.

هذه المشروعات التقسيمية (التفكيكية) المطروحة على المنطقة ليست مجموعة أفكار نظرية (ايديولوجية) تعتمد على خطط مكتوبة على الورق وإنما هي مشاهد عينية تعتمد الممارسة وأخذت تظهر ميدانيا على الأرض. فالبلقنة (البلقان) والقبرصة (قبرص) واللبننة (لبنان) والأفغنة (أفغانستان) والصوملة (الصومال) والسودنة (السودان) وأخيرا العرقنة (العراق) ليست تصورات مثالية تنتظر الظروف المؤاتية لنقلها من عالم الفكر إلى عالم الواقع.

كل هذه المفردات تجاوزت منطق المصطلح اللغوي وتحولت إلى سياسات واقعية بدأت تظهر تضاريسها الاجتماعية (القبلية والقومية والدينية والمذهبية والطائفية واللونية) في الكثير من المساحات والساحات المناطقية والإقليمية من شرق الأمة إلى غربها ومن مشرقها إلى جنوبها ووسطها. ولهذه الأسباب الواقعية المنظورة والملموسة لا بد من أخذ الحيطة والحذر والتنبه إلى خطورة ما حصل ويتوقع أن يحصل من مخططات وقرارات.

قرار «مجلس الشيوخ» الأميركي بشأن العراق يجب أن ينظر إليه واقعيا. فهو ليس الأول من نوعه وإنما الطبعة الأخيرة (الجديدة) من مشروعات قديمة لم تتوقف لحظة في زمن التصارع الدولي الطويل. وهذا الأمر يتطلب من قوى الممانعة العربية رؤية جديدة تعيد النظر بالكثير من الهيكليات والمنهجيات والآليات التي اعتمدت خلال أكثر من قرنين وأدت إلى التقوقع والتراجع والانتقال محطة بعد محطة من خيبة إلى أخرى.

التحديات كبيرة وخطيرة و «النماذج» المنظورة على مدى العالمين الإسلامي والعربي واضحة في تقاسيمها وتضاريسها ولم تعد مجرد مخططات مكتوبة على الورق. وهذا النوع من التحدي التاريخي يتطلب نوعية مختلفة من «النخب العربية». فما هو مطروح ميدانيا يتجاوز تلك القراءات الايديولوجية والردود المثالية التي تكثر من العويل وتتهرب من التفكير.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1853 - الثلثاء 02 أكتوبر 2007م الموافق 20 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً