في سَحَرِ ليلة التاسع عشر من رمضان المبارك، قبل 1388 عاما، خرج من الدار القريبة من دار الإمارة نحو المسجد. كان قد تناول كوبا من اللبن الحامض، مع قطعةٍ يابسةٍ من الخبز، وهو الطعام الذي يحبّه ويلزم نفسه به منذ سنوات، مواساة لفقراء المسلمين، ولكي لا يطول وقوفه أمام ربِّه يوم الحساب.
في فناء الدار، كانت هناك بضع أوزات أهاجتهن الحركة المبكرة في الدار، فأخذت تتصايح أمامه. تمتم وهو يشعر في أعماقه بأنها الليلة الموعودة: «صوائحٌ تتبعها نوائح»... حتى في هذه اللحظة النفسية الكئيبة لم تخُنهُ بلاغته.
عندما همّ بالخروج، علق طرف ردائه بمسمارٍ بالباب، كأنما يريد أن يستبقيه. وهناك كان ينتظره الفصل الأخير من حياةٍ طويلةٍ عريضة، قضاها مدافعا عن الدين الجديد، مذ كان طفلا تربّى في حجر محمد (ص)، حتى أصبح فارسا يتقدّم الصفوف طوال 23 عاما، إلى أن انثالت عليه الجماهير من كل جانبٍ لتختاره حاكما، وهو يدفعها قائلا: «أنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا».
لم يقلها عن شكٍّ بنفسه، بل كان يقرأ المستقبل، بعينٍ استحكمت رؤيتها بفعل التجارب وبصائر الوحي، فقوى الردة والرجعية القرشية لن تتركه يعيد التجربة إلى سكتها الأولى، «ليحملهم على الجادة البيضاء»، كما تنبأ تماما عمر بن الخطاب، حيث لا استئثار ولا تمييز ولا سيادة لأبناء قبيلة على أخرى إلاّ بالتقوى.
ثلاثة وعشرون عاما قضاها تحت ظلال السيوف وفوق ظهور الخيول، يساهم في إعلاء دعائم الإسلام وتشييد أركانه، حتى استوى الدين على سوقِهِ، حضارة على بداية طريق النهضة، بعد أن توحّدت تلك القبائل الوثنية المتناحرة على عبادة ربٍّ واحد.
لم يكن أحدٌ يتخيّل أن تكون هذه هي الخاتمة. ضربةٌ بالسيف في محراب مسجد الكوفة على يد إرهابي من بقايا الخوارج، اسمه عبد الرحمن بن ملجم المرادي من حِمْيَر، اتفق على تفاصيل المؤامرة في مكة، مع زميليه البرك بن عبد الله التميمى الصريمى، وعمرو بن بكر السهمي، عند انقضاء موسم الحج العام 40 للهجرة.
فئةٌ متشدّدةٌ لم يتجاوز الإيمان تراقيهم، ولم تهضم قيم الإسلام العليا أو تتشرّب مفاهيمه الإنسانية السامية. انغلقت على ذاتها فلم تعد ترى أحدا على الحق إلاّ شيوخها ومفتيها وعتاولتها، يحرّمون دم البعوضة ويتأثمون من أكل بسرةٍ على الأرض، ولكنهم يستحلون إراقة دم صحابي جليل، وبقر بطن زوجته الحامل، دون أن يرفّ لهم جفنٌ أو يهتزّ لهم ضمير.
من وسط هذه البيئة المريضة التي استهوتها لعبة تكفير المسلمين، خرج القاتل الموتور، الذي كان يعيش قصة عشقٍ مع إحدى بنات الكوفة بعد أن فتنته بجمالها. لم يُصلح الأحمق أخلاقه أو يربّي نفسه، ولكنه يريد أن يصلح شأن الأمة... وعلى يد هذا الغرّ كانت النهاية.
المرأة المفتونة التي قُتل أبوها وأخوها في حرب النهروان، التي أطاح فيها عليٌ (ع) بالقوة الضاربة للخوارج بعد حملهم السلاح في وجه حكومته، ظلّت تحلم بأخذ الثأر. وجاءتها الفرصة على طبق من ذهب، فاستغلت غرق المرادي في حبها وفرضت عليه مهرا غاليا:
ثلاثة آلافٍ وعبدٌ وقِينَةٌ
وقتلُ عليٍّ بالحسامِ المسمّم
في مثل هذا اليوم، كان عليٌ يرقد في سريره ينتظر الأجل ورأسه ينزف من ضربة السيف. لكنه أوصى أبناءه بأن يحسنوا لقاتله ويطيبوا مأكله ومشربه... تلك أخلاق الأوصياء والنبيين.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1852 - الإثنين 01 أكتوبر 2007م الموافق 19 رمضان 1428هـ