شكل قرار «مجلس الشيوخ» الأميركي غير الملزم بشأن تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم صدمة سياسية لمختلف القوى العربية الوحدوية. فأنصار الوحدة القومية أو التوحيد الإسلامي وجدوا في مشروع القرار خطة مبرمجة تريد تمرير استراتيجية تقضي في النهاية تفكيك المنطقة إلى دويلات ضعيفة ومتناحرة تخدم الكيان الصهيوني المتحالف مع الولايات المتحدة.
ردود الفعل كانت قوية وجاءت في سياق انفعالي يذكر كثيرا بتلك المشاهد السياسية التي مرت بها المنطقة في محطات زمنية مختلفة. فالأحزاب القومية وأخواتها من منظمات أهلية ومدنية عربية وإسلامية عقدت اجتماعات سريعة أو دعت إلى عقد ندوات طارئة لمناقشة تداعيات المشروع والتوافق على خطة عملية تردّ عليه. ولكن الأحزاب على أنواعها تبدو في تعاملها مع خطة التقسيم غير واعية لتلك الوقائع الميدانية التي نجح الاحتلال في رسم خطوطها السياسية على الأرض.
قوى الممانعة تحتاج فعلا إلى وقفة تأمل حتى تستطيع مراجعة تعاطيها الانفعالي مع استراتيجية تستخدم كل وسائل التفكيك معتمدة على عناصر طائفية ومذهبية وتيارات سياسية تبحث عن هوية مضادة للوحدة القومية ومخالفة لتلك المظلة التاريخية التي تشكلت تحت سقف الإسلام في القرون الماضية. فالمشروع الأميركي يستغل آليات الضعف في العلاقات الأهلية ويستخدم تلك الهيئات واسطة لتنفيذ خطة تقسيمية أقوى واقعيا من الأدوات الايديولوجية التي تلجأ إليها عادة الأحزاب العربية القومية أو الإسلامية.
ما حصل ويحصل في العراق يشكل مادة حيوية تعطي صورة عملية عن تلك الأساليب التقويضية التي استخدمتها الإدارة الأميركية بعد الاحتلال. ودراسة تكتيكات تيار «المحافظين الجدد» ربما تساعد قوى الممانعة وأحزابها على تحديد نقاط الضعف والقوة وتمهد الطريق إلى تكوين أدوات قادرة على مكافحة التقسيم وتعطيله.
الإدارة الأميركية بدأت مشروعها التحطيمي حين قررت تقويض الدولة في العراق وتفكيك كل قواعدها الاقتصادية ومرتكزاتها السياسية. فالتقويض أدى إلى انهيار الدولة وتبخرها من الحياة العامة وهذا ما فتح الباب لنمو قوى محلية (أهلية) تبحث عن أدوات للحكم بهدف الحماية من مخاطر أمنية أخذت تتعرض إليها. وتحت غطاء الدفاع الذاتي عن المصالح المباشرة تبلورت نزعة إقليمية في المحافظات أخذت تؤسس هيئات محلية تقوم بدور الوكيل المؤقت لدور «دولة» غابت عن ساحة الصراع. بعد ذلك دخلت مراكز القوى في المناطق في حالات من الفوضى الأهلية وبدأت تتصادم للسيطرة على الموارد في محاولة لفرض نفوذها الخاص. وأدت الفوضى التي أطلقت عليها إدارة الاحتلال تسمية «بناءة» إلى توليد العنف الطائفي والمذهبي فأخذت القوى المحلية (الميليشيات) تلعب في النار وتمعن في القتل والتصفية والتشريد والتنكيل والتهجير بقصد طرد الجماعات التي لا تتجانس مع هوية الإقليم أو المحافظة.
ما حصل في العراق من انقسامات أهلية جاء في سياق خطة مبرمجة اعتمدت على أدوات محلية لتنفيذ المشروع الذي طالب «مجلس الشيوخ» باعتماده مخرجا للحل. فالوقائع الميدانية التي جرفت المساجد والمراقد والجوامع والحسينيات شكلت على مدار أربع سنوات من الاحتلال ايديولوجية طاردة لكل مخالف في دائرة المحافظة والإقليم. والطرد من محل الإقامة أو مكان السكن يحتاج دائما إلى ايديولوجية محلية تتماهى مع الغالبية الأهلية للطائفة أو المذهب حتى تكتسب تيارات التقسيم والتفكيك شرعية مرحلية تلعب وظيفة دفاعية عن تكتلات بشرية متجانسة في تكوينها الثقافي وتقاليدها في ممارسة طقوس العبادة أو الحياة اليومية العادية.
الايديولوجية الطاردة
الايديولوجية الطاردة في النهاية هي مجموعة أفكار عشوائية تقوم على وعي زائف يكرس الشعور المضاد للوحدة أو التوحيد ويدفع بالعلاقات الأهلية إلى الابتعاد عن المشترك الإنساني. وهذا النوع من الايديولوجية خطير للغاية لأنه يستمد قوته من عناصر شديدة الانغلاق على ذاتها الخاصة وصورتها الضيقة التي لا تتعدى القرية أو العشيرة أو الحي.
«العرقنة» إذا ليست مجرد فكرة نظرية اقترحها «مجلس الشيوخ» الأميركي للتسوية وإنما هي ايديولوجية طاردة تلعب سياسيا وظيفة تقويضية للمشترك الإنساني والمصير الواحد والمصلحة العليا. وهذا النوع من الايديولوجيات لا ينظر إلى الجوامع التي تربط القوى في دائرة المصلحة المشتركة وإنما يملك أدوات تحض على الكراهية والريبة من الآخر والتشكيك بولائه للجماعة المحلية لأسباب مختلقة تصدر عن مشاعر طائفية ومذهبية محكومة بمنظومة من الأفكار العشوائية والفوضية. و «العرقنة» التي تشكلت من طريق العنف (القتل على الهوية) خرجت إلى الواقع الأهلي بعد غياب الدولة وانهيار المؤسسات واندفاع الطوائف والمذاهب من زوايا المجتمع المكبوت الذي كان يعاني من الظلم والقهر والإذلال. وخروج الطوائف والمذاهب والعشائر إلى الميدان يمثل تقليديا ذاك الرد العفوي على سلطة استخدمت الاستبداد وساطة للحكم الفردي والأسري. فالدولة حين تصادر كل قنوات الحياة العادية للناس وتقطع شرايين الاتصال الطبيعية بين مجموعات الوطن تؤسس من دون تخطيط علاقات أهلية متنابذة في مشاعرها وعواطفها. وحين تنهار الدولة فجأة وتغيب عن لعب دورها المركزي في مراقبة الناس تتشكل فورا هيئات أهلية متجانسة إلى حد التطابق مع التركيب السكاني للقرية أو الحي أو العشيرة أو المحافظة أو الإقليم.
مشهد الانهيار العراقي الذي عصف ببلاد الرافدين بعد تقويض الدولة يمكن مقارنته بما حصل في الصومال حين تبخرت دولة محمد سياد بري. فالصومال الذي كان يخضع لسلطة الحزب الواحد، والحزب تتحكم بإدارته مجموعة واحدة خاضعة بدورها لرقابة الفرد (الدكتاتور) الواحد انهار إلى مجموعة دويلات بعد سقوط الحاكم المستبد. فـ «الصوملة» تشبه كثيرا «العرقنة» على رغم أن البلد ينتمي في غالبيته الساحقة إلى دين واحد ومذهب فقهيّ واحد.
التشابه يؤكد على وحدة قانون الانهيار وتجانس آليات التفكك والتبعثر على مراكز قوى تتنازع السلطة انطلاقا من هويات محلية قد تكون طائفية وأقوامية (العراق نموذجا) أو عشائرية وقبلية (الصومال مثلا).
المشهد العراقي الذي ظهر على الشاشة السياسية العربية بعد الاحتلال الأميركي ليس بعيدا في قوانينه وآلياته وايديولوجيته الطاردة عن ذاك المشهد الصومالي الذي لايزال يتحرك ويتقولب ويتخبط في القرن الإفريقي منذ 15 عاما. فـ «العرقنة» هي الوجه الآخر والمصاحب في صورته ومثاله لذاك المشهد التراجيدي الذي يتكرر صعودا وهبوطا في الصومال. وهذا الفعل الشنيع العنيف في تضاعيفه السياسية اعتمده «مجلس الشيوخ» كأمر مفروض بالقوة من دون أن يأتي على الأسباب الخارجية التي لعبت دورها في توظيف عناصر الضعف المتراكمة لهدم الدولة وتفكيك قواعدها ومرتكزاتها.
قرار «مجلس الشيوخ» ليس سحابة صيف أو مجرد أوراق تم تداولها للتسلية. فالقرار خطير في تطلعاته واستنتاجاته وهو يشكل بداية قراءة غير ملزمة لمشروع كبير يتعدى الحدود الجغرافية لبلاد الرافدين. والقراءة تبدأ عادة «غير ملزمة» ولكنها مع الأيام تتحول إلى خطة عمل يمكن اعتمادها في حالات مشابهة. وهذا الخطر العملي (الميداني) الذي يستخدم الايديولوجيا الأهلية للطرد لا يكافح نظريا كما هي عادات الأحزاب العربية القومية والإسلامية. فالمشروع ينطلق من نماذج وممارسات وأمثلة عينية، ولذلك يتطلب من قوى الممانعة وقفة تأمل تتجاوز الانفعالات التي لا تقدم بالتأكيد قراءة جديدة لرؤية المستقبل ولكنها تساهم عفويا في تأخير إمكانات الرد على التحدي المخيف الذي قذفه الاحتلال لتعطيل شعارات الوحدة والحرية والاستقلال.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1852 - الإثنين 01 أكتوبر 2007م الموافق 19 رمضان 1428هـ