يلفت الانتباه للمارة بمنطقة مزارع الهملة العدد الكبير لمركبات صهاريج المياه التي تقطع شارع الهملة/ الجسرة دخولا وخروجا بشكل مستمر طوال اليوم، ومع بعض المراقبة والتقصي تبين بأن هذه المركبات تملأ المياه من الآبار الزراعية الموجودة في هذه المزارع، وبأن هذه الأراضي الزراعية تمتلكها أحدى هيئات الأوقاف وتم استئجارها/ تضمنها من قبل بعض الأشخاص لاستغلالها في الأغراض الزراعية، وبأن هؤلاء المتضمنين يستغلون المياه الجوفية المستخرجة من الآبار الزراعية الموجودة في هذه الأراضي لبيعها في السوق للأغراض الصناعية والسياحية، مثل مصانع الملابس الجاهزة وأصحاب برك السباحة ومصانع تحلية المياه وغيرها من الاستخدامات، بأسعار تصل إلى 30-40 دينارا لصهريج الماء الواحد، كما تبين بأن هذه العملية مستمرة لمدة طويلة تزيد عن الخمس سنوات، وبأنها أصبحت تجارة رائجة على امتداد مزارع الهملة والجسرة التي تحتوي على أفضل المياه الجوفية في المملكة، وبأن هذا السحب اليومي المتواصل من دون توقف أدى إلى استنزاف المياه الجوفية، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى التدهور المتسارع في نوعية المياه الجوفية في هذه المنطقة وتملحها.
في العام 1980، وبناء على دراسات هيدروجيولوجية مستفيضة للوضع المائي في البحرين والكثير من التوصيات التي هدفت إلى المحافظة على المياه الجوفية من الاستنزاف وتنظيم استخدامها، صدر المرسوم الأميري رقم 12/1980 بشأن مراقبة وتنظيم التحكم في المياه الجوفية. ونصت المادة رقم (3) من المرسوم على عدم السماح باستخدام مياه الآبار للأغراض الصناعية أو السياحية من طبقة الدمام، وهي الطبقة الرئيسة للمياه الجوفية العذبة نسبيا في مملكة البحرين، وتعتمد عليها المملكة بشكل رئيسي في تلبية متطلباتها المائية الزراعية وجزء كبير من متطلباتها المائية البلدية، سواء مباشرة لتزويد المياه في المناطق الغربية أو لأغراض الخلط مع المياه المحلاة في مختلف مناطق البحرين. ولتلبية المتطلبات المائية لقطاعات الصناعة والسياحة خصص المرسوم طبقة أخرى تقع أسفل طبقة الدمام، تسمى بطبقة أم الرضمة وذات مياه مائلة إلى الملوحة لتلبية متطلبات هذين القطاعين. ولأن هذه الطبقة تحتوي على مياه مائلة إلى الملوحة، حمل القانون مسئولية تحويلها إلى مياه صالحة للاستخدامات الصناعية المختلفة على أصحاب هذه الآبار بتركيب الأجهزة اللازمة لجعل هذه المياه صالحة للاستهلاك المنوي استخدامه فيها، أي إنشاء محطات لتحلية المياه.
أي أن القانون الحالي يحرم بشكل صريح وواضح استخدام مياه طبقة الدمام للاستخدامات الصناعية والسياحية، ولذا فإن ما يقوم به متضمني وأصحاب هذه الأراضي هو عبارة عن مخالفة والتفاف صريح على هذا القانون الذي يمنع استخدام مياه هذه الطبقة المائية لهذه الأغراض، ويقوم هؤلاء بسرقة المياه الجوفية في وضح النهار واستنزاف المياه الجوفية بكميات تفوق الكميات اللازمة للاستخدام الزراعي الذي يتناسب ومساحة الأرض التي صرحت لها هذه الآبار.
المادة رقم (11) من دستور مملكة البحرين تنص على «الثروات الطبيعية جميعها ومواردها ملك للدولة، تقوم على حفظها وحسن استثمارها، بمراعاة مقتضيات أمن الدولة واقتصادها الوطني»، أي أن موارد المياه الجوفية هي ملك للدولة بحسب الدستور البحريني والدولة مؤتمنة على هذه الموارد الطبيعية بالنيابة عن المجتمع البحريني، ومسئولة عن تنظيم استغلالها بما يضمن تحقيق المنفعة المجتمعية القصوى من استثمارها واستدامتها للأجيال القادمة. وبالنظر في بنود المرسوم الأميري المذكور أعلاه نجد أن هذا القانون يحتوي على 22 بندا الكثير منها متعلق بتنظيم استخدام المياه والآليات المناسبة لتحقيق ذلك، كما يشمل المرسوم الجوانب الجزائية للمخالفين وأعطى إدارة مصادر المياه بوزارة البلديات والزراعة الكثير من الصلاحيات للتدخل القانوني لأي مخالفات تحصل، بل حدد الغرامات ومدد السجن للمخالفين لأحكام هذا القانون والقرارات التنفيذية الناتجة عنه، ويعتبر إطار تشريعي وقانوني مناسب يمكن العمل به. إذا، فالجوانب القانونية والتشريعية موجودة ومتكاملة في هذه الحالة، ولا ينقص إلا التدخل الحكومي لوقف هذا الاستنزاف المتواصل الذي يهدد ما تبقى من مياه جوفية في البحرين.
ولذا، فإن استمرار هذا الوضع من دون تدخل المسئولين عن المياه الجوفية في الحكومة لوقف تخريب مصادر المياه الجوفية في المملكة يعتبر مثيرا للقلق، وإذا ترك الأمر على ما هو عليه قد ينتشر هذا التصرف بين أصحاب الأراضي الزراعية ومتضمنيها بشكل أكبر من الحالي في مختلف مناطق البحرين، إذا لم يكن هو كذلك بالفعل الآن، معرضا مصدر المياه الجوفية الوحيد في المملكة، أو ما تبقى منه للخطر، وخصوصا أن الطلب على المياه في البحرين في تزايد مستمر وكلفة الحصول على هذه المياه في تزايد.
في الدول المتقدمة سيكون من السهل نسبيا على أي جمعية من الجمعيات المعنية بالشأن العام وخصوصا البيئية منها رفع دعوى قضائية على متضمني هذه الأراضي بسبب مخالفتهم القانون وتعديهم على حقوق ملكية المجتمع لهذه المياه، ورفع دعوى قضائية على هيئة الأوقاف صاحبة الأرض لعدم تنفيذها الشروط الخاصة باستخدام الآبار الزراعية وعدم إلزامها ومراقبة متضمني أراضيها في تنفيذ هذه الشروط، وكذلك رفع دعوى قضائية على الحكومة لعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف هذه العملية من التعدي على الملكيات العامة وهي المكلفة والمؤتمنة عليها من قبل المجتمع للمحافظة عليها بحسب دستور مملكة البحرين. وسيتم رفع هذه الدعوة في محاكم بيئية تتفرع من النظام القضائي العام لهذه الدول يرأسها قضاة ذوو خلفيات علمية وملمين بالقضايا البيئية والمياه.
ويوجه هذا المقال ثلاثة دعوات، الأولى هي للصحافة المحلية لفتح باب التحقيق في هذا الموضوع المتعلق بالتعدي على الملكيات العامة واختراق القانون في مجال المياه الجوفية، والمساهمة في تحريك الرأي العام نحو هذه القضية، لكي تصل إلى مجلس النواب أملا في الوصول إلى إنشاء نظام يحفظها من السرقة والتلاعب. الدعوة الثانية موجهة إلى الجمعيات البيئية للتحرك والضغط في اتجاه وقف التدهور الحاصل في المياه الجوفية (وهي المخفية تحت الأرض وغير منظورة للعامة) بسبب هذه التعديات وبأن تضعها ضمن المواضوعات البيئية ذات الأهمية في جدول أعمالها. أما الدعوة الثالثة فهي موجهة إلى النظام القضائي في المملكة لإنشاء محاكم بيئية متخصصة تنظر في هذه القضايا وتوفر القناة المطلوبة لطرحها من قبل المتضررين والمدافعين عن حقوق المجتمع البحريني الضائعة.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1850 - السبت 29 سبتمبر 2007م الموافق 17 رمضان 1428هـ