العدد 1850 - السبت 29 سبتمبر 2007م الموافق 17 رمضان 1428هـ

دستور العراق وقرار مجلس الشيوخ

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أسوأ ردود الفعل على قرار مجلس الشيوخ الأميركي غير الملزم بشأن تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم (طائفية ومذهبية) اتحادية منفصلة كان ذاك الذي صدر عن «البيت الأبيض». فالناطق باسم «البيت» طوني فراتو اعتبر التصويت غير مهم وليس «هناك أي شيء ملزم فيه». ردة فعل الإدارة تريد الإشارة إلى عدم علمها بالوقائع الجارية ميدانيا على أرض بلاد الرافدين منذ أربع سنوات. وإعلان البراءة من المسئولية يعتبر قمة في الفجور السياسي لأن ما حصل لا يمكن فصله عن الأسباب التي دفعت بالعلاقات الأهلية إلى الانهيار والتفكك.

ادعاء إدارة جورج بوش عدم مسئوليتها عن نتائج الاحتلال وما أسفر عنه نهج التقويض من دمار شامل للبنى التحتية والمؤسسات والهيئات يعتبر سياسة تدل على الاحتيال ومحاولة للتهرب من المحاسبة الدولية وتعويض الشعب تلك الخسائر التي دفع كلفتها من حياته ومعاشه واستقراره.

إصرار إدارة بوش على «وحدة العراق» بعد أن استكمل الاحتلال سياسة حرق البلاد وتخريبها وتمزيقها تعتبر خطوة في استراتيجية اعتمدت الخداع والكذب منذ افتعال الأزمة لتبرير الحرب وتغطية الغزو. والكلام الذي أطلقه الناطق الرسمي تعليقا على قرار مجلس الشيوخ محاولة يائسة لذر الرماد في العيون وصرف الأنظار عن الدور المركزي الذي لعبته واشنطن في دفع العلاقات الأهلية إلى هذا الطور من الانشطار.

إدارة بوش تتحمل المسئولية من البداية إلى النهاية مهما حاولت الآن التهرب من النتائج الكارثية التي أصابت بلاد الرافدين. والاحتيال على الوقائع التي ساهم الاحتلال في ترسيم حدودها الميدانية لا يعفي الإدارة من تحمل النتائج التي أودت بالعراق إلى هاوية التقسيم.

مشروع التقسيم الذي أقره مجلس الشيوخ جاء نتاج دراسة نظرية للوقائع الميدانية. والفكرة التشطيرية التي اعتمدها أعضاءالمجلس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري تأسست بناء على معطيات أشار إليها «الدستور» الذي صاغه الاحتلال بعد غزو العراق. فالدستور الذي أشرفت إدارة الاحتلال على وضع مواده لمّح إلى نوع من «فيدرالية اتحادية» تعتمد لا مركزية إدارية للمحافظات والأقاليم. وهذا التلميح الدستوري أوجد الذرائع القانونية التي استخدمتها ميليشيات الطوائف والمذاهب أدوات هدم وتحطيم وقتل وتشريد وتفخيخ وتهجير وذبح على الهوية.

المشكلة الأساسية تكمن في دستور الاحتلال، وهو شكّل ولايزال القاعدة النظرية التي تبرر قانونيا سياسة التفكيك والتقويض. وتعديل الدستور يشكل خطوة ضرورية لإعادة تنظيم علاقات أهلية تحتاج من جديد إلى ترتيب هيكلية تضمن وقف نهج التمزيق الذي اعتمده الاحتلال.

قرار مجلس الشيوخ غير ملزم ولكنه في جوهره السياسي اعتمد على نتائج الاحتلال وما أسفرت عنه آيديولوجية التقويض التي أخذ بها تيار «المحافظين الجدد». كذلك استقى مجلس الشيوخ قراره من تلك المواد التقسيمية التي اشتملها دستور الاحتلال. فالدستور الذي صاغته إدارة الاحتلال وفرضته خيارا وحيدا على الشعب العراقي شكل تلك القاعدة القانونية التي بررت لمجلس الشيوخ اعتماد مشروع قرار التقسيم. وإلغاء قرار «الشيوخ» لابد أن يسبقه مشروع قرار يسمح بتعديل «الدستور العراقي» وشطب تلك المواد الغامضة والمبهمة التي تعطي المحافظات والأقاليم صلاحيات إدارية تعطل قرارات الحكومة المركزية.

البداية قبل النهاية

المسألة تبدأ من الخطوة الأولى، فهي التي فتحت باب التشطير وشجعت القوى الأهلية على الذهاب بعيدا في «اللامركزية» إلى طور الانقسام الميداني وتفكيك البلاد إلى «كانتونات» تدير شئونها المحلية بعقلية طائفية ومذهبية وبعيدا عن مفهوم دولة لم تعد موجودة أصلا.

قرار مجلس الشيوخ بدأ من حيث انتهى الاحتلال وقام بتركيب تصوراته بناء على النتائج ولم يتطرق إلى تلك الأسباب التي أدت إلى تشطير بلاد الرافدين وتوزيعها إلى «حكومات محلية» تتسلط على موارد «الأقاليم» وسكان المحافظات.

«الدستور العراقي» هو أصل المشكلة. والمأساة التي يعاني منها الشعب الآن هي نتاج احتلال قرر منذ البدء تقويض الدولة وتفكيك مناطقها وذر شعبها إلى دويلات متجانسة في هوياتها الطائفية والمذهبية. وحتى يستطيع الشعب العراقي تصحيح المعادلة لابد له من البدء في تصحيح الدستور وصولا إلى تعطيل قرار مجلس الشيوخ.

النهاية التي وصل إليها أهل العراق لم تكن عفوية وإنما تأسست على آيديولوجية اعتمدها تيار «المحافظين الجدد» مستفيدا من سياسات التفرقة والتمييز والاضطهاد والقمع والاستبداد التي هيمنت على قرارات النظام السابق. ولكن النهاية دفعت بالبلاد إلى طور أسوأ وجعلت من الجموع العراقية تبحث عن ملاذات آمنة خوفا من القتل وقطع الرؤوس وهربا من ميليشيات أشاعت مناخات التخويف في مختلف المناطق والأقاليم.

الحال العراقية قبل الاحتلال كانت تعاني من التمزيق الأهلي وتبعثر الولاءات إلى مراكز قوى تتحرك خارج نطاق الدولة «المركزية». ولكن الحال المذكورة لم تكن سيئة إلى الحد الذي وصلت إليه بعد الاحتلال. فالغزو الأميركي راهن على نتائج الاستبداد لتبديد الدولة من الوجود وإعادة تأسيس دويلات تعتمد الهوية الطائفية والمذهبية أساسا للفيدرالية. والإدارة حين اتخذت هذا القرار التقويضي بعد الغزو كانت تدرك سلفا أن النتائج ستكون على هذه الصورة التشطيرية التي اعتمدها مجلس الشيوخ لتبرير قراره غير الملزم.

ردة فعل «البيت الأبيض» بائخة وتدّعي البراءة وتتذاكى على العالم في وقت يعلم كل من تعاطى في الشأن العراقي من قريب أو بعيد أن المسار الميداني لحركة التدافع السكاني في بلاد الرافدين ستصل إلى تلك الصورة السياسية الانقسامية. والمضحك في المأساة أن القوى التي تعاملت وتعاونت وساعدت الاحتلال على الغزو ودعمته في قراراته وسياسته أبدت امتعاضها من مشروع قرار مجلس الشيوخ وطالبت برفضه بينما هي ساهمت فعليا في صوغ دستور تنص بعض مواده على تشطير العراق وتوزيعه إلى أقاليم منعزلة ومنفصلة عن مركز دولة لم تعد موجودة على الخريطة السياسية.

حفلة الكذب والنفاق التي صدرت عن جهات متعاملة ومتعاونة مع الاحتلال تشبه كثيرا تلك الادعاءات الفارغة والبائخة التي أطلقها «البيت الأبيض» تعليقا على قرار مجلس الشيوخ. فالنقد واحد سواء صدر عن قوات الغزو أو عن تلك الفروع التي استخدمت الاحتلال وسيلة لتدمير البلاد وتقويض الدولة والانخراط في مسلكيات غير سوية لنهب الثروات وتبديدها وتهريبها إلى الخارج.

قرار مجلس الشيوخ غير الملزم مشكلة ولكنه ليس أساس المشكلة. فالقرار هو صورة عن سياسة ميدانية اعتمدها الاحتلال في إطار منهجية آيديولوجية استغلت الواقع الذي يعاني من الظلم والاستبداد بهدف إعادة تأسيس هوية جديدة لدولة تقوضت واندثرت من الوجود. والدستور الذي صاغه الاحتلال يشكل ذاك الغطاء الشرعي لممارسة شجعت على نظام المحاصصة وتوزيع الغنائم وفق شروط نصت عليها قوانين طائفية وقنوات مذهبية.

العلة الأساس في دستور الاحتلال. وهذه العلة هي التي بررت لمجلس الشيوخ الأميركي اعتماد قرار غير ملزم يشرع التقسيم بناء على نتائج ميدانية وصل إليها العراق ضمن خطة مفتعلة تبرمجت خطوة خطوة وسارت في سياق آليات قررها تيار «المحافظين الجدد» قبل الغزو وبعده.

ردة فعل «البيت الأبيض» على قرار مجلس الشيوخ سخيفة وغير مقنعة وتحتاج إلى صدقية للبرهنة على صحتها. فالناطق الرسمي احتج على النتيجة وتهرب من تعيين السبب. والسب هو الاحتلال وذاك الدستور «الفيدرالي» الذي وزع دولة على طوائف ومذاهب جغرافية، وأعطى صلاحيات للأقاليم تفوق قدرات المركز على التوحيد أو الدفاع أو توزيع الثروة. وما يحصل الآن من اعتراضات من جانب «إقليم كردستان» على توقيع الاتفاق الأمني بين حكومة العراق وتركيا يؤكد ذاك الخلل التنظيمي في ترتيب العلاقات بين المركز والأطراف. فالأطراف لها صلاحيات تطيح بالخطوات التي يعتمدها المركز إذا وجدت أنها لا تلبي رغباتها المحلية وطموحاتها «الإقليمية». والتشنج المذكور لا يستند في صلاحياته القانونية على قرار غير ملزم صدر عن مجلس الشيوخ الأميركي وإنما يعتمد على فقرات ومواد نص عليها دستور تقسيمي وتفكيكي صاغه الاحتلال. وإلغاء قرار الشيوخ لا يبدأ بإعلان براءة إدارة واشنطن منه وإنما من تصحيح دستور تنص بعض مواده على فقرات تبرر التفكيك وتشرع التقسيم.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1850 - السبت 29 سبتمبر 2007م الموافق 17 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً