أليس من المثير للعجب أن غير الأميركيين يواصلون استثمار مدخراتهم في الولايات المتحدة في حين أن الحكمة التقليدية كانت تقول أن الدولار سيستمر في التراجع؟
فلماذا يستثمر الأشخاص العقلانيون في أصلٍ آخذ في الانهيار؟ هل يفهمون شيئا لا يفهمه السياسيون والمعلقون؟
لقد نشرت الولايات المتحدة الشهر الماضي تقريرا آخر بأن قيمة الأصول التي يمتلكها الأجانب في الولايات المتحدة تتجاوز قيمة الأصول الأجنبية التي تمتلكها الولايات المتحدة (بنحو 2.5 تريليون دولار)، وقد تراجع الدولار ليسجل أدنى مستويات له أمام اليورو. وقد تعامل بعض السياسيين والإعلاميين مع هذه الأحداث الإخبارية على أنها كارثة قومية. وفي الواقع، لا يشكل الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة مشكلة ولا يعني أن الدولار سيتراجع أو يرتفع نسبة لأي عملة أخرى، والأسباب التالية ستفسر كل هذا.
إن السبب الذي يجعل الأفراد أو الشركات أو الحكومات «تدخر» - أي تُنفق أقل مما تجني في وقت ما - هو السماح بمعدل إنفاق أعلى في المستقبل. وعادة يدخر الأفراد المال خلال السنوات التي تكون فيها عائداتهم مرتفعة قبل التقاعد حتى يتمكنوا من الإنفاق أكثر بعده.
والآن فلنفترض أن شخصا نرويجيا غنيا (أو إن أردت بديلا ألمانيا أو يابانيا أو صينيا) يريد أيضا أن يدخر المال لحين تقاعده. إن النرويج بوصفها دولة صغيرة غنية بالنفط، لا تتمتع بكثير من فرص الاستثمار المحلي. لذلك سيرغب النرويجي بتنويع مخاطرته بالاستثمار في بلدان أخرى. وتبدو الولايات المتحدة مغرية بالنسبة إليه لأنها تتمتع بأقوى اقتصاد في العالم، بالإضافة إلى حكم القانون وأنظمة حماية قوية للملكيات الخاصة، كما أنها لا تفرض على المستثمرين الأجانب دفع ضرائب على فوائدهم الناتجة من الاستثمار أو على أرباح الأسهم أو رأس المال.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للنرويجيين أيضا تأجيل أي التزام ضريبي نرويجي فوري بشكل قانوني وسليم عن طريق القيام باستثماراتهم من خلال جنات ضرائبية خارج البلاد، مثل جزر الشانيل أو برمودا أو جزر كايمان (لأن النرويج مثل معظم الدول وبعكس الولايات المتحدة لديها نظام ضريبة إقليمي).
وعلى المستثمر النرويجي أولا الحصول على الدولارات الأميركية قبل البدء في الاستثمار، لذلك يذهب إلى البنك ويبتاع الدولارات بالكرون النرويجي. وربما يكون البنك قد اشترى دولاراته من شركة نفط نرويجية تبيع النفط للولايات المتحدة. فلنفترض أن النرويجي اشترى بدولاراته سندات مالية حكومية أميركية وأسهما في شركات أميركية ومسكنا على شاطئ ميامي. فعندما تدفع الحكومة الأميركية الفوائد على السندات المالية فهي تدفع بالدولار، كما هو الحال بالنسبة للشركات الأميركية عندما تدفع أرباح الأسهم؛ ولا يهم من هي الجهة التي تتلقى الدولارات.
وفعليا يتخذ ملايين آخرون من المستثمرين الأجانب (بمن فيهم الأفراد والشركات والحكومات) قرارات مشابهة كل عام. وكل مستثمر لديه وضع محلي مختلف ورغبات مختلفة واختيارات مختلفة للوقت؛ بالتالي لن يبيعوا جميعهم أصولهم الأميركية في الوقت ذاته. (وعلى رغم الاحتباس الحراري العالمي، سيستمر طقس شهر ديسمبر/ كانون الثاني في ميامي بالتحسن أكثر من طقس أوسلو في القرون القليلة المقبلة!).
وعندما يبيع المستثمرون الأجانب أصولهم، فهم يجنون الدولارات. والشيء الوحيد الذي يمكنهم (أو يمكن لأي أحد يشتري دولاراتهم) فعله بالدولارات هو شراء البضائع والخدمات الأميركية أو إعادة الاستثمار في الولايات المتحدة؛ وفي كلتا الحالتين، فهو صافي الربح بالنسبة للولايات المتحدة.
إن تذبذب العملات تسببه التغيرات في أسعار الفائدة والتضخم ومعدلات الربح والسياسة الضرائبية والإنفاق والتغيرات المدركة في الخطر الناشئ بين البلدان. فإذا ارتفع الدولار أمام اليورو، سيشعر الأوروبيون برغبة أكبر في الاستثمار في العقارات الأميركية وسيشترون بصورة متزايدة البضائع والخدمات الأميركية، بينما سيواجهون صعوبة أكبر في بيع بضائعهم في الولايات المتحدة، وهو ما يؤدي في مرحلة ما إلى تراجع اليورو أمام الدولار.
لقد استثمر أهالي نيويورك في فلوريدا أكثر مما استثمر أهالي فلوريدا في نيويورك لمدة قرن، وكان هذا في مصلحة فلوريدا.
هذا وقد استثمر الأوروبيون في أميركا فيما يزيد عن السنوات الأربعمئة الماضية أكثر مما استثمر الأميركيون في أوروبا، وهذا في مصلحة أميركا.
ويحتمل على المدى البعيد أن تتمتع الولايات المتحدة بمعدلات نمو أعلى من أوروبا بسبب الديموغرافيات المستحبة بشكل أكبر، وإلى درجة ما العوائق الضرائبية والتنظيمية الأقل. كما يحتمل أن يتواصل استقرار الولايات المتحدة السياسي وأن تبلي بلاء حسنا في حماية حكم القانون وحقوق الملكية أكثر من معظم الدول الأخرى في العالم. وسترتكب الولايات المتحدة في بعض الأعوام أخطاء تتعلق بالسياسة العامة - مثل زيادة الإنفاق الحكومي أو السماح بانتهاء صلاحية تخفيضات الضرائب التي أقرها بوش. ولكن على المدى الطويل، تبقى الولايات المتحدة الرهان الأضمن.
وأخيرا، فإن الولايات المتحدة بخلاف كثير من الدول الأخرى، تمتلك معظم أصولها والتزاماتها بعملتها. وتُوقع الدول نفسها في المتاعب عندما تشتري أصولها بعملتها وكثيرا من التزاماتها بعملات أخرى (مثل الدولار). لذلك لا يشكل فرقا كبيرا ما إذا كان شخص من نيويورك أو لندن يمتلك شقة في ميامي، أو ما إذا كان شخص من تكساس أو فرانكفورت يمتلك أسهما في شركة عالية التقنية في فرجينيا - لأنها جميعها بالدولار. ولا يجدر بـ «عجز» الولايات المتحدة التجاري أن «يصحح» نفسه أكثر مما يفعل «عجز» فلوريدا التجاري مع نيويورك - ويمكن أن يستمر ذلك لقرون.
وعلى فكرة، فإن رهاني هو أن الدولار سيرتفع أمام اليورو بعد سنة من الآن!
*خبير اقتصادي في معهد كيتو في واشنطن العاصمة، ومدير مؤسسات اقتصادية كثيرة بما في ذلك «المركز الأوروبي للنمو الاقتصادي» في النمسا، والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»
www.misbahalhurriyya.org
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 1849 - الجمعة 28 سبتمبر 2007م الموافق 16 رمضان 1428هـ