كثير من الحضارات والقوميَات اندثرت مع مرور الزمن. فعندما يعجز النضال عن حماية النوع وتصبح التضحية بالأرض أمرا لا مفرَ منه مقابل بقاء الحياة والعرق، نرى الشعوب تهرع وتلوذ لاجئة إلى أية دولة تجد فيها الأمان. وقد تجلَت هذه الظاهرة بأفظع صورها في إبادة الأرمن، ما دفعهم إلى اللجوء إلى بلدان عدة ومنها لبنان، حيث استقروا وحافظوا على قوميتهم منصهرين بالمجتمع اللبناني كمواطنين لبنانيين أرمن، مستحقين بجدارة حق التوطين في لبنان، حيث قرروا البدء من جديد.
وبما أن حوادث التاريخ تعيد نفسها في أماكن مختلفة وبشخصيات وبطولات متجددة ومتغيرة، نرى الفلسطينيين اليوم في نضالهم الطويل من أجل الأرض قد تبعثروا وتهجروا في دول مختلفة كان للبنان نصيب فيها. فإلى أي مدى تتشابه أوضاعهم ومعاملتهم في هذا البلد مع حال الأرمن فيه فيما مضى؟
ولعل ما حدث في مخيم نهر البارد يلقي الضوء على هذه المسألة ويساعد في الإجابة على السؤال المطروح أعلاه.
غادر الفلسطينيون مخيم نهر البارد قسرا وحفاظا على أرواحهم, في حرب قالوا إنها لا تعنيهم كما لا تمثلهم بأية صفة. وانتصر الجيش اللبناني على جماعة «فتح الإسلام» الإرهابية بعد تدمير المخيم الذي شكل مأوى للفلسطينيين لسنين طويلة. ثم أطل علينا رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة مهنئا بالنصر، مبشرا بإعادة بناء البارد، واعدا الفلسطينيين بالعودة إليه، إنّما مع التنويه هذه المرة بوضعه تحت سلطة الدولة والدولة اللبنانية فقط.
وعود مستقبلية ربما تكون مطمئنة للبعض ومصدر قلق للكثيرين, وخصوصا الفصائل الفلسطينية في المخيمات الأخرى التي قد تخشى أن يطبق عليها قانون البارد وتجَرد من سلاحها.
والأهم هنا ما هو وضع فلسطينيي المخيَم خلال فترة الإعمار؟ ما هي الظروف الحياتية اليومية التي يعيشونها؟ من يعوضهم خلال هذه المدة التي قد تطول وتطول معها معاناة العائلات الفلسطينية المهجَرة إلى المخيمات المجاورة؟
من البديهي أن نجيب بمسئولية الدولة اللبنانية بالدرجة الأولى بحكم وجودهم على أراضيها، ولكن هذه الأخيرة منهكة بالصراعات السياسية الداخلية والضغوط الخارجية وترزح اقتصاديا تحت أعباء جمة. كما أن جزءا كبيرا من الشعب اللبناني بات يعاني اليوم من الحرمان من أبسط مقومات الحياة. فهل تلتفت الدول العربية المجاورة لإخواننا الفلسطينيين في لبنان؟ علما أن عدم قدرة الدولة اللبنانية على مساعدتهم ماديا لا يبرر المأساة اليومية التي يعيشها الفلسطينيون بسبب القوانين الصارمة بشأنهم, وخوفا من التوطين.
لقد رفض اللبنانيون التوطين بجميع فئاتهم، كما رفضه جزء كبير من الفلسطينيين، بحكم أن توطينهم يسقط «حق العودة» الذي دعت إلى إلغائه وثيقة جنيف ودعمتها محاولات أميركية وأوروبية تحت مسميات مختلفة، مطالبة بتوطين الفلسطينيين في أماكن وجودهم، لاغية بذلك القضية الوطنية التي ناضلوا من أجلها لتذويبهم ودمجهم داخل مجتمعات جديدة، ودفعهم إلى التخلَي عن أرضهم ووطنهم.
على ما يبدو أن هذه المحاولات بدأت تثمر، والأمور أخذت تنحو باتجاه آخر. فلو أمعنا التفكير بأسباب الحرب في نهر البارد وكيفية وجود «فتح الإسلام» ومصادر تمويلهم والدمار وتوقيت الإعمار… ستدور في رأسنا الكثير من التحليلات والتفسيرات وستختلف وجهات النظر باختلاف المعايير والزوايا التي نرى من خلالها الأمور.
هل هي نقطة انطلاق لبدء التوطين المقنع من «البارد» بالذات؟ وهل باتت القرارات اللبنانية والفلسطينية أكثر مرونة وتقبلا للمسألة؟ هل يحذف بند عدم التوطين من الدستور اللبناني في ظل الظروف والمتغيرات الإقليمية والعروض الدولية التي قدمت إلى لبنان مقابل التوطين؟ وهل تلاشت أحلام الفلسطينيين بحق العودة ويئسوا المعاناة والقتل والتهجير، وباتوا يطالبون بحياة واقعية والاندماج في مجتمع جديد؟ هل يكون «البارد» النموذج المثالي الأول لطي صفحة المأساة الفلسطينية؟ وما هو إمكان انتقال هذا النموذج إلى المخيمات الأخرى والبدء بمرحلة جديدة من التوطين؟
لطالما تخوف اللبنانيون من هذه الفكرة، خشية ازدياد الخلل في التوازن الطائفي في لبنان. ولا يلام اللبناني على هذا الشعور، فإن اندماج شعب بشعب خطوة جريئة قد تكون محفوفة بالمخاطر وتحتاج إلى الكثير من التفكير. علما أن توطين الأرمن فيما مضى لم يتقبله اللبنانيون بسهولة وارتابوا من اللاجئين الذين أتوا إلى لبنان فارين من المجازر. وتكتلوا في مخيمات تحولت إلى قرى ثم إلى مدن. ما حدا ببعض اللبنانيين إلى اتهامهم بتأسيس «كانتونات» في المناطق التي استقروا فيها، ولم يتقبلوا انغلاقهم واتهموهم بالتقوقع. إلى أن أثبت الأرمن أنهم قطب مهني وصناعي وتجاري لبناني، واندمجوا في هذا المجتمع حتَى تقبلهم اللبنانيون ومنحوا الجنسية اللبنانية، وصاروا يتمتعون بسائر حقوق وواجبات المواطنين اللبنانيين.
فهل يستحق الفلسطينيون في لبنان المعاملة بالمثل؟ وهل يعتبر توطينهم بداية جديدة وحدّا لمعاناتهم أم جريمة بحقَهم تحرمهم حقَ العودة وتنسيهم الوطن؟
إقرأ أيضا لـ "كاتيا يوسف"العدد 1847 - الأربعاء 26 سبتمبر 2007م الموافق 14 رمضان 1428هـ