العنصرية، ضمن أمور أخرى، مناسبة ومريحة، فهي توفر إجابات مبسطة وجاهزة لأسئلة معقدة مركّبة. العنصريون بدورهم يأتون من مناكب الحياة كافة، حوافزهم وجذور أسباب وجهات نظرهم الوضيعة والجديرة بالازدراء تجاه الآخرين قد تختلف وتتباين، ولكن نتيجة وجهات النظر هذه، كما هو متوقع، متماثلة: التمييز العنصري والظلم الاجتماعي والسياسي، والاضطهاد الديني والحرب.
يتعلق التعريف المرجعي للعنصرية بالعرق فقط، ولكن العنصرية في واقع الممارسة هي نتيجة لفكر جماعي، إذ تقرر مجموعة من البشر تعيين نفسها كتجمعّ وتبدأ بوضع حدود علاقتها مع التجمعات الأخرى، أو مع الناس عموما، بشعور من الفوقية. وعندما يندمج ذلك مع الهيمنة الاقتصادية / أو السياسة، فإن الفوقية تُترجم إلى أشكال متنوعة من الإخضاع والقسوة.
تزلّف الذات/ التجمّع والانتقاص من الآخر ممارسة قديمة قِدَم الزمان، وقِدَم الحضارة الإنسانية نفسها. وهي باقية إلى الأبد لسبب بسيط هو أنها شكّلت دائما أداة سياسية واقتصادية، وستبقى فاعلة على الأرجح طالما أن البحث عن السلطة المادية والسياسية يدير سلوكنا.
ومن وثاقة الصلة بالموضوع كذلك التأكيد على أن الحاجة لهذه الدلالة السلبية للمجموعة ليست دائما مباشرة مثل «الأسود والأبيض». على سبيل المثال، يسعى الأوروبيون الشرقيون، الأقل حظا من الناحية الاقتصادية، «ويتنافسون على» فرص العمل في أوروبا الغربية ليجدوا أنفسهم وقد وُضعوا في الكُتَل نفسها وأُخضِعوا لكل أشكال التصنيف. كذلك كان سوء تمثيل العرب عبر الرسوم الكاريكاتيرية من قبل إعلام التيار الرئيس مناسبا بشكل مماثل وهو أمر يدفع مصالح سياسية واقتصادية معينة.
من المفارقات أن شكلا متطرفا من العنصرية يوجد كذلك في دول عربية مختلفة، حيث يجد العمال الأجانب أنفسهم وقد وُضعوا في مراتب متسلسلة مهينة بناء على البلاد التي ينحدرون منها. الأوروبيون الغربيون والأميركيون يوجدون على رأس سلم المقياس ويتم تقبّلهم بسهولة ويسر، بينما يقبع رعايا دول جنوب شرق آسيا أحيانا في الحضيض. قد يجد مهندس هندي عالي الكفاءة نفسه، على سبيل المثال، يتسلم راتبا أقل بكثير من فرنسي يملك خبرة محدودة نسبيا.
وفي بعض الدول مثل جنوب إفريقيا عاثت العنصرية فسادا في المجتمع لأجيال عديدة، وهي تجسد نفسها من وراء رفض البعض الإفصاح عن انتمائهم إلى ثقافات أجدادهم الأصلية لخوفهم من أن يُفشِل هذا الانتماء حقيقة أنهم مواطنون جنوب إفريقيون «بشكل كامل»، وهو حق خاضوا من أجله حربا شاقة صعبة.
وفي ماليزيا، التي تُظهر تناغما اجتماعيا معتبرا مقارنة ببعض جيرانها، ما زال التصنيف الاجتماعي أمرا حقيقيا جدا. على رغم جهود الحكومة الجديرة بالثناء للتأكيد على النموذج الوطني الماليزي، بينما تبرز باهتمام وحذر أهمية التجمعات الفرعية المالاوية والصينية والهندية، يعي أفراد هذه المجموعات تمثيلهم الإحصائي في المجتمع الماليزي. بعضهم يتفاعل من خلال التأكيد على أعدادهم مقارنة بالمجموعات الأخرى بينما يُبرِز آخرون، من دون تعب أو كلل، أشكال التفرقة التي يتعرضون لها على أيدي الأكثر حظا سياسيا واقتصاديا.
وعلى رغم أن العنصرية أمر معترف به عالميا إلا أن قلة من الأفراد هم الذين يعترفون بتحاملهم واتجاهاتهم العنصرية. إضافة إلى ذلك فإنه من خداع الذات النظر إلى العنصرية على أنها ظاهرة غربية خالصة. وعلى رغم أن النموذج الغربي للعنصرية، المتأثر بالحركة الاستعمارية في القرن الثامن عشر، فريد من نواحٍ عدة، إلا أن التحاملات الجماعية المرتكزة على الطبقة الاجتماعية والعرق والدين مشتركة بشكل متساو تقريبا بين الشعوب كافة.
تتميز عنصرية الذين يملكون سلطة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية أحيانا بالعنف والضرر، ولكن من الأهمية بمكان تذكر أن التابع يمكن أن يكون عنصريا بالدرجة نفسها. أرسلت لي قارئة عربية من لندن رسالة إلكترونية تطالبني فيها بتفسير تعاوني في مشروعات عدة مع مؤلفين يهود معروفين. «إما أنت ساذج أو أنك تخليت عن القضية» حسب قولها. لم يعنِ لها شيئا كون هؤلاء المؤلفين مناوئين للصهيونية، وأنهم كانوا طوال سنوات كثيرة في مقدمة النضال من أجل الحقوق الفلسطينية والعدالة. ببساطة، لم تستطع الانسلاخ عن معتقدات عنصرية متأصلة بعمق بأنه «لا يمكن ائتمان اليهود».
بالطبع وليس هذا مزاجا عربيا بل هو عالمي. تنزع الصراعات المطولة والحروب لأن تثّبت وتضخّم جوانب التعصب القائمة. على رغم أن النظام التعليمي الإسرائيلي أنتج أجيالا مشبعة بصور مضلّلة بشكل هائل عن العرب والفلسطينيين إلا أن العلاقة بين العرب واليهود لم تكن دائما سلبية. عاشت المجموعتان بتناغم لقرون كثيرة، وكان الكثير من أفضل الشعراء العرب في العصور الغابرة يهودا، كما كتبت بعض أكثر الكتب اليهودية ألمعيّة أصلا باللغة العربية. لسوء الحظ، للنزاع والحرب أسلوب في تقويض حقائق كهذه. العنصرية في «إسرائيل» وصلت حدودا من الشدة الآن لدرجة أن أحدا لا يجرؤ على استخدام التعبير «يهودي عربي». وحتى حين لا يتعلق الأمر بالعِرق فإن معظم الناس ينزلقون على ما يبدو بسهولة في العضوية القبلية الأوسع التي تقسم العالم إلى «نحن» و»هم»، أحيانا باستعمال كلمات نفي وأحيانا من خلال استخدام الدين. عنصر «غير» يصبح مفيدا جدا هنا: «غير مسلم»، «غير يهودي»، «غير مسيحي»، وهكذا. أسلوب النفي هذا ليس حسن النية أبدا وتنتج عنه دائما نتائج سلبية. التعابير الأقل جلاء ووضوحا مثل «غير ديمقراطي» (والذي قد يكون تعبيرا استعماريا جديدا مكافئا لـ «غير متحضّر») يمكن أن يكون مثقلا بالمعاني بشكل مماثل وخطير، ويستخدم أحيانا لتشجيع الحرب أو تبريرها.
يبقى من الضروري القول إن الصراع الحقيقي ضد العنصرية والأشكال المتنوعة الأخرى من التحامل الجماعي تتطلب أولا قبول المسئولية الشخصية في تشكيل مجتمع الإنسان نفسه، ويضم هذا العنصرية الموجودة داخله. وقد رفض مارتن لوثر كنج «قبول وجهة النظر بأن بني البشر مرتبطون بشكل مأسوي بليل خالٍ من النجوم من العنصرية والحرب، لدرجة أن الفجر المشرق للسلام والأخوّة لا يمكن أن يصبح واقعا. نحن كذلك يجب أن نرفض دون حل وسط هذا التشاؤم إذا أردنا بحق أن يحل السلام والتناغم والمساواة مكان الحرب والتنافر الاجتماعي والظلم.
* مؤلف وصحافي. آخر كتبه «الانتفاضة الفلسطينية الثانية: سجل لنضال شعب» (مطبعة دار بلوتو للنشر، لندن)، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1847 - الأربعاء 26 سبتمبر 2007م الموافق 14 رمضان 1428هـ