المكانة الكبيرة التي أولاها الإسلام للمال تدل بوضوح على المكانة القصوى للتنمية الاقتصادية لديه، والمال وسيلة لغاية أسمى، وهي تجسيد مفهوم الاستخلاف الذي يعني طاعة الله وعبادته والتي لا تتم إلا بإصلاح الدنيا وتعميرها من أجل إشباع حاجات الإنسان المادية، ولهذا فصلاح المال صلاح الدنيا، ولا صلاح للدين من دون صلاح الدنيا، يقول الإمام علي (ع) «الدنيا مطية المؤمن عليها يرتحل إلى ربه فأصلحوا مطاياكم تبلغكم إلى ربكم». ولخطورة المال، ولكونه غالٍ في نفس صاحبه، ولدوره الكبير في صلاح حياة الإنسان، وحتى لا يوجد ما يثبط الفرد عن بذل الجهد والسعي لتنمية ماله، حمى الإسلام أموال الناس في المجتمع الإسلامي، فجعله أحد ثلاثة أمور ينبغي الحرص عليها، وهي الأعراض والدماء والأموال، يؤكد على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وآله: (... كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)... وجاءت الأحكام الشرعية لتعكس هذه الحرمة وتصون الأموال، ومن ذلك التشريع الجنائي في الإسلام من خلال تشديد العقوبة على من يتعدى على أموال الآخرين، كقطع يد السارق، وتطبيق حد الحرابة على من يقطع الطريق من أجل نهب المال بالإكراه. وقد جرى تكرار كلمة مال وأولاد في مواضع كثيرة من القرآن، كلها جاءت في الآيات مقدمة على الأولاد.
ومع أن المال مال الله تعالى في الفكر الإسلامي، لقوله تعالى: «وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه» (الحديد:7)، إلا أن إطلاق المسلمين مصطلح (بيت مال المسلمين) على الخزينة العامة يعني نسبة المال لهم، تعبيرا عن وظيفته التي أرادتها الشريعة في إصلاح شأنهم.
ويتحفنا التاريخ بصور عجيبة تنم عن خطورة وحرمة المال العام وشدّة العقاب الذي يوقعه الحاكم المسلم على من يخون فيه. ومن الأمثلة العملية على قسوة الإسلام تجاه الخيانة في مال المسلمين ما روي من أنّ الإمام (ع) استدرك على أحدهم يسمى ابن هرمة خيانة، وكان على سوق الأهواز فكتب إلى رفاعة - ولعله الوالي - فإذا قرأت كتابي هذا فنحِّ ابن هرمة عن السوق وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه واكتب إلى أهل عملك لِتُعلمهم رأيي فيه ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند الله عز وجل من ذلك وأعزلك عُزلة وأُعيذك بالله من ذلك، فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السجن واضربه خمسة وثلاثين سوطا وطُف به في الأسواق، فمن أتى عليه بشاهد فحلّفه مع شاهده، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه، ومُر به إلى السجن مهانا مقبوحا منبوحا، واحزم رجليه بحزام...».
وأهم ما يتطلب المساءلة والمحاسبة، ما يتعلق بالمال العام، فكثير من الهدر في المال العام، وخصوصا في البلدان المتخلفة، نتيجة المناقصات التجارية الوهمية، وغيرها من المعاملات ذات العلاقة بالمال، والتي محورها (موظفو الدولة والسياسيون)، وهذا من أكبر الأسباب التي تعيق تحقيق تنمية حقيقية. وفي هذا السياق، فقد أصدرت منظمة « الشفافية الدولية « تقريرها الذي يصدر كل ثلاثة أعوام في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2004، وجاء على لسان رئيسها بترايغن فيه أنّ المبالغ التي تهدر سنويا في العالم بسبب الرشا في مجال المشتريات والمشروعات الحكومية، تقدر بأربعمئة مليار دولار على الأقل، وأنّ معظم البلدان المنتجة للنفط معرضة للفساد الشديد.( نقلا عن: «الوسط» البحرينية، العدد 776، أكتوبر 2004/ 7 رمضان 1425هـ)
وفي هذه الأيام، نشهد تداولا وكلاما عن دعوة ولي العهد لمحاسبة الفاسدين والمتلاعبين في المال العام حتى لو كانوا وزراء... وحتى يمكن ترجمة هذه الدعوة عمليا، لابد من إطلاق يد مجلس النواب، سواء عن طريق تحويل مسئولية ديوان الرقابة المالية عليه، أو إجراء تعديلات دستورية وتعديلات على بعض القوانين تمكنه من القيام بهذه المهمة بدلا من التركيبة الحالية التي تسمح لكتل المولاة ذات الأكثرية الزائفة إجهاض أي تحرك كما حدث للوزير عطية الله. ومن دون ذلك، فإن الخشية أن تذهب هذه الدعوة وتختفي كما يختفي الصدى بعد الصوت.
كذلك، الخشية قائمة أن تصطدم دعوة ولي العهد مع مصالح متنفذين، فالمتنفذون دائما هم أول المعارضين لمثل هذه الدعوة، لأنهم عادة ما يخسرون مواقعهم التي كسبوها من غير مسوغ من كفاءة واقتدار. ويميّعون من خلال مناصبهم الرسمية أي دعوة إصلاحية، لأنّ فيها ضياع ما اكتسبوه بالباطل. وتهديد ولي العهد الشيخ سلمان بن حمد لمن يثبت توّرطه حتى لو كان وزيرا، أمر في غاية الأهمية. والمنتظر أن نشهد خطوات عملية في هذا الشأن، فعمر بن عبدالعزيز (رض) عندما أرجع الحقوق، واسترد مال بيت المسلمين ممن استملكها بالباطل، كان أول من احتج على سياسته هم ذوو المناصب الكبيرة في الدولة، ولكنه كما يقول السيوطي: «بدأ بلحمته وأهل بيته، فأخذ ما بأيديهم، وسمى أموالهم مظالم».
والأمل يتضاءل لتحقيق تنمية مع وجود فساد وهدر للمال العام، وطبيعي أن أشدّ الفساد يتمثل في تملك الأراضي والبحار، لأن في ذلك قضاء على المنافسة كعنصر مهم من أجل التنمية، وتمكين فئة من دون المساهمة بجهد، ولهذا أصر الإمام علي بن أبي طالب (ع) على استرداد أراضي الملك العام التي استولى عليها قوم من دون حق، وقال. «... ولو وجدته قد تُزوج به النساء ومُلك به الإماء لرددته، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق». فمشروعات التنمية تحتاج للأراضي التي أصبحت كلها ملكا خاصا، تُجني من وراء بيعها أو تأجيرها أموالا طائلة بلا وجه حق ولا مساهمة في جهد. فهذا الأساس المعوّج ينبغي تصحيحه، ليقوم البناء مستقيما سليما في المستقبل. حاليا، الأموال الهائلة تذهب لمن لم يبذل جهدا من خلال تقسيم الأراضي الشاسعة وبيعها على المستثمرين وغيرهم. وهذه تنمية للمال الخاص، ولكن ليس عن طريق إضافة لناتج الدخل المحلي الإجمالي، وإنما هي عملية شفط من جيوب الآخرين فقط لا غير، وهي عملية تسهم في إعاقة إقامة المشروعات الاستثمارية بسبب الارتفاع الشاهق لأسعار الأراضي.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1846 - الثلثاء 25 سبتمبر 2007م الموافق 13 رمضان 1428هـ