«مأدبة الإفطار» التي دعت إليها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس «اللجنة الرباعية الدولية» أمس الأول طرحت أسئلة تقليدية بشأن مسار السلام في «الشرق الأوسط». فالدعوة اقتصرت على الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية والولايات المتحدة بمشاركة مصر والسعودية والأردن وسورية. وغاب عنها لأسباب وأعذار متنوّعة لبنان وفلسطين و «إسرائيل».
الغياب والحضور لهما معانٍ مختلفة، ولكن قراءة ما صدر من تصريحات بعد «الفطور» يعطي إشارات غامضة عن احتمال نجاح تلك «الفرصة الأخيرة» في تحقيق أغراضها قبل نهاية الولاية الثانية من عهد الرئيس جورج بوش.
الوزيرة رايس قالت إن «المؤتمر الدولي» الذي سيعقد في الخريف المقبل وتحديدا في النصف الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سيقتصر على مناقشة «المسار الفلسطيني»، وسيخصص لبحث موضوع تأسيس «الدولتين»، وستدعى إليه كل الدول الممثلة في لجنة «متابعة مبادرة السلام العربية» ومنها سورية. فالهدف من الدعوة إلى «المؤتمر» هو تركيز الجهد على «دعم حلّ الدولتين»، وتناول القضايا الجوهرية مثل الحدود والقدس واللاجئين الفلسطينيين.
وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل أشار إلى وجود بعض التقدم ولكن الرياض لاتزال تنتظر إيضاحات، وتأمل أن تتلقى أجوبة عن أسئلة طُرحت. وزير الخارجية الأردني عبدالإله الخطيب أشار إلى وجود «أرضية مشتركة»، مذكّرا بضرورة «الاتفاق على الآليات». السفير السوري الذي شارك في «الإفطار» نيابة عن وزير الخارجية لم يعلق على النتائج، واكتفى بنقل ما سمعه إلى حكومته. الحكومة السورية أوضحت ملاحظاتها بتصريح قاله وزير الإعلام محسن بلال أشار فيه إلى أن الدعوة لم توجّه رسميا إلى دمشق لحضور «المؤتمر»، وحين توجّه ستدرس الدعوة لتحديد موقف نهائي بشأنها. وذكر الوزير السوري أن بلاده لن تضع شروطا للمشاركة، ولكنه أشار إلى وجود مسارات أخرى غير المسار الفلسطيني وهي تتصل بانسحاب «إسرائيل» إلى خط الرابع من يونيو/ حزيران 1967 واستعادة الجولان. رايس لم ترفض فكرة «المسارات» ولكنها تشدّدت في مسألة التركيز على مسار واحد، ولكن «إذا أراد آخرون أن يتحدثوا عن مسارات أخرى فلن يوقفهم أحد عن ذلك».
الملاحظات والتعليقات التي صدرت بعد الانتهاء من «مأدبة الإفطار» تشير إلى وجود تعارضات يمكن أن تؤدي إلى تقويض فكرة «المؤتمر الدولي» إذا أصرّت واشنطن على «فصل» المسارات وعزلها عن بعض، والتعامل مع كلّ موضوع وكأنه قضية منفصلة عن الأخرى.
هذه السياسة لا تبشّر بالخير؛ لأنها تعيد التذكير بتكتيكات اتبعتها واشنطن بعد «أزمة الكويت» وحرب الخليج الثانية في 1990 - 1991. فبعد الحرب على العراق تحرّكت إدارة جورج بوش الأب على خط التسوية السلمية لمشكلة «الشرق الأوسط»، ودعت الأطراف المعنية إلى بحث الأزمة المزمنة والمعقدة في مدريد. واشترطت إدارة واشنطن آنذاك أن تكون الوفود العربية منفصلة وغير موحّدة بذريعة أن فكرة «القومية» انتهت وبدأ عصر الدول المستقلة، ولابدّ أن تأتي كل دولة ممثلة بوفد منفرد وبمشروع خاصّ يتعرّض لمشكلته ولا يحق له بحث قضايا غيره.
إصرار واشنطن على أن تتمثل الدول العربية في «مفاوضات مدريد» بوفود منعزلة استهدف تفكيك الترابط «العربي» و «القومي» و «الإسلامي»، وضرب اجتماع المصالح على قضية مركزية واحدة. فالقضية الفلسطينية - كما تراها إدارة واشنطن في تلك الفترة - ليست عربية أو قومية أو إسلامية، وإنما هي تخصّ الشعب الفلسطيني فقط وغير مسموح للوفد المصري أو السوري أو الأردني أو اللبناني أو السعودي أن يبحث في موضوع ليس من اختصاصه. وأدى إصرار واشنطن على موقفها إلى تشتيت الإجماع العربي، وتفكيكه إلى قضايا جزئية مستقلة عن بعضها وغير متصلة بموضوع مركزي يتركز على القضية الفلسطينية. وبسبب فكّ الارتباط بين فلسطين وتفرعاتها تم عزل القضايا العربية عن بعضها، ودفعها منفردة في مسارات مختلفة، فهناك مسار فلسطيني، ومسار أردني، ومسار سوري، ومسار لبناني وغيرها من مسارات، ولكنها كلها لا تجتمع في مصبّ واحد يشدّ المسارات إلى نقطة مركزية تتمثل في القضية الأم.
مفاوضات مدريد
شكّلت «مفاوضات مدريد» خطوة أولى نحو تفرقة الدول العربية وعزل كل طرف عن الآخر. فالأردن غير مسموح له بالبحث في الموضوع الفلسطيني وإنما يجب أن يركز نقاشه على تلك التفصيلات الجزئية المتعلقة بترسيم الحدود بين الطرفين. ولبنان لا يحق له التعرّض لتفرعات القضية ومشكلة اللاجئين في أرضه، وإنما عليه أن يركز على تلك التداخلات الحدودية وموضوع الاحتلال الإسرائيلي للجنوب. كذلك سورية لا يحق لها تجاوز موضوع الجولان والمشكلات الثنائية بين البلدين.
وبسبب تفكيك الترابط بين القضايا انعزل الجانب الفلسطيني عربيا، ولم يعد يحقّ لمنظمة التحرير الفلسطينية البحث في مشروع حلّ للقضية في إطار قومي يتصل بالمحيط الجغرافي. فالقضية فلسطينية فقط ولا علاقة لها بالمحيط القومي أو العربي أو الإسلامي، كذلك لا يحق للعالم الإسلامي أو العربي أو سورية ومصر والسعودية والأردن ولبنان التدخل في معالجة شأن خاص ليس من اختصاصهم.
ساهم هذا التفكيك المنهجي في بعثرة التضامن العربي، حين ذهب كل فريق حاملا همومه القُطرية (الكيانية) الخاصة من دون مظلة عامة تجمع كل القضايا تحت قبة سياسية مشتركة. وهكذا نجحت الولايات المتحدة في التلاعب بالمسارات، وأخذت تغلّب هذا المسار على ذاك، وتعزل فلسطين عن الأردن والأردن عن سورية وسورية عن لبنان. وأحيانا كانت تلجأ إلى تغليب المسار الفلسطيني على السوري للإيقاع بينهما. ثم تقدم على تغليب المسار الأردني على الفلسطيني بهدف فصل تداخل القضايا وعزلها عن بعضها.
أدى التلاعب بالمسارات إلى إيقاع الدول العربية المعنية مباشرة بالقضية الفلسطينية في خلافات قُطرية (كيانية) بسبب ذهاب كل فريق باتجاه معاكس للآخر. فالجانب الفلسطيني اضطر مكرها إلى اتباع مسار خاص به دفعه إلى القبول بتوقيع اتفاقات غامضة في أوسلو أعطته حق بناء سلطة (حكم ذاتي) في الضفة والقطاع، من دون أن تنصّ الاتفاقات على مادة واضحة تحدّد أطر الدولة وحدودها وسيادتها. والجانب الأردني اضطر بدوره إلى توقيع اتفاقات «وادي عربة» والاكتفاء بحلّ بعض المشكلات الجزئية المتصلة بالحدود وإعادة بعض الأراضي المحتلة. بعدها توقفت المفاوضات والمسارات ودخلت المنطقة العربية من جديد في دائرة أزمة «الشرق الأوسط».
مضت الآن 15 سنة على «مفاوضات مدريد» وما أعقبها من اتفاقات وقعت على مسارات منعزلة ومنفصلة ولكن القضية المركزية لاتزال في جوانبها الجوهرية موضوعة في «ثلاجة». كذلك لم تتوصل تلك اللقاءات والمفاوضات المباشرة والعلنية التي جرت في عهد بيل كلينتون (8 سنوات) إلى تفكيك الأزمات وتوضيح المسارات الدولية بشأن لبنان (شبعا وكفر شوبا) وسورية (الجولان) والانسحاب إلى خطوط الرابع من يونيو 1967.
خطة فصل المسارات وتغليب مسار على آخر أسّست مشروع فتنة بين الدول العربية، وأعطت فرصة لتل أبيب للتلاعب وعزل كل دولة عربية عن أخرى بذريعة أن القضية الفلسطينية مسألة خاصة ولا يحق للعرب التدخل بها باسم القومية أو الإسلام. وهذه الخطة أسهمت في تأجيل الحل الدولي (القرار 242)، وأهملت جبهات عربية، واستدرجت جبهات إلى سياسة توقيع اتفاقات لا تؤخر ولا تقدم في القضية الأساس. حتى الآن لاتزال الخلافات قائمة بين الدول العربية المعنية مباشرة بأزمة «الشرق الأوسط» بسبب تلك السياسة الانفرادية التي اتبعتها واشنطن بعد حرب الخليج الثانية. والمخيف في الموضوع أن إدارة بوش الابن وبعد حرب تقويض العراق وتفكيك السلطة الفلسطينية والعدوان على لبنان تحاول اللجوء إلى التكتيك نفسه وهو عزل المسار الفلسطيني عن باقي المسارات، واعتبار موضوع «الدولتين» مسألة خاصة ويمكن بحثها بشكل مستقل عن احتلال الجولان والانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة.
إعلان رايس أن «المؤتمر الدولي» في الخريف المقبل سيخصص لموضوع «الدولتين» فقط وأن واشنطن لا مانع لديها «إذا أراد آخرون أن يتحدثوا عن مسارات أخرى» يعيد التذكير بتلك اللعبة التي بدأت بخطة تفكيك ترابط المسارات، وانتهت إلى تخفيف الضغط على تل أبيب وزرع الشقاق ودفع «الأشقاء» إلى التنافس والتضارب لكسب تفاهمات خارج المسار العربي الموحّد والمشترك.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1846 - الثلثاء 25 سبتمبر 2007م الموافق 13 رمضان 1428هـ