بحسب ميشيل فوكو فإنه «لا شيء أضعف من نظام سياسي لا يكترث بالحقيقة، لكن لا شيء أخطر من نظام سياسي يدّعي تحديد الحقيقة» (مسارات فلسفية، ص37). والذي يقوله فوكو عن الحقيقة ينطبق على التاريخ والذاكرة، فلاشيء أخطر من نظام سياسي يدّعي تحديد حقيقة التاريخ ويُخضع فعل التذكر لقانون الممنوع والمسموح. في حين أنه لا ينبغي لفعل التذكر أن يأخذ شكل القانون، لأن القانون يتأسس على يقين يحدد ما هو خير ليجيزه، وما هو شر ليعاقب عليه. ومن المؤكد أن هناك تذكّر خيّر، وآخر شرير أو باعث على الشر، إلا أن المسألة لا تكمن في هذا التمييز، بل تكمن في تحديد من له الحق في تمييز معايير الخير والشرّ في فعل التذكّر، فمن هي الجهة المخوّلة بممارسة الحكم القضائي على أفعال التذكّر، وتحديد التذكّر المشروع والممنوع؟ لا يمكن للدولة أن تكون هي الجهة المعنية بهذه المهمة، وخصوصا إذا كانت الدولة منحازة ومؤسسة على مطابقة مزعومة بين تاريخ الدولة وتاريخ جماعة بعينها داخل الدولة. كما لا أتصوّر أن المؤرخين هم الجهة الصالحة لمثل هذه المهمة؛ لسبب بسيط، وهو أن هؤلاء بشر، وحدود معرفتهم بالماضي تبقى محدودة، ثم إنهم معرّضون للوقوع فيما يسميه ابن خلدون بـ «مَغالِط المؤرخين»، وهم معرضون كذلك للانزلاق إلى التآمر والتوظيف السياسي والأيديولوجي للتاريخ ولوقائع الماضي، وربما كان ذلك تعصبَا منهم لتاريخ بعينه، أو طمعا منهم في مصالح مادية آنية، أو خضوعا لضغوط سياسية يمارسها عليهم صاحب السلطة والنفوذ.
ويزداد الأمر صعوبة إذا عرفنا أن صورة الماضي الحقيقية، كما يقول والتر بنيامين، «تمرّ بسرعة، ولا يمكن الإمساك بالماضي إلا كصورة تومض» في لحظة «ثم لا تعود تُرى أبدا» (مقالات مختارة، ص197). وهذا المرور السريع للماضي هو الذي يجعل التحقق منه مستحيلا؛ لأنه، وببساطة، مرّ سريعا ولم يعد موجودا اليوم، وما هو كذلك لا يمكن الاحتكام إليه من أجل حسم النزاعات؛ إذ كيف يمكن الاحتكام إلى شيء غير موجود؟ لا يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه إطلاقا، فلكل حدث في هذا التاريخ خاصيته المتفردة غير القابلة للتكرار. نعم، يمكننا أن نتذكر ونستحضر هذا التاريخ ووقائعه، إلا أن التذكر ليس تكرارا للتاريخ، بل هو نقل للتاريخ من طابعه الحدثي المتفرّد إلى طابعه المتمثَّل ذهنيا، أي الماضي كصورة تومض كما يقول بنيامين. وما إن يغادر التاريخ أرضية الحدث ويدخل في دائرة الصورة والتمثّل الذهني حتى يغيّر جلده، ويصبح خاضعا لـ «عمل المخيلة»، وعندئذٍ فقط يصبح التاريخ قابلا للنسخ والتكرار وحتى التلفيق والاختلاق والفبركة بصور متعددة وإلى ما لانهاية.
ثم إن فعل التذكر الذي يجري في الفضاء العام يختلف عن عمل المؤرخين في كتابة التاريخ والترجيح بين رواياته. فإذا كان التاريخ، كما يقول ابن خلدون، محكوما بطبائع العمران البشري وأحواله وأوضاعه، بحيث «تُرجَع إليها الأخبار، وتُحمل عليها الروايات والآثار» (مقدمة ابن خلدون، ص4)، فإن فعل التذكّر في الفضاء العام لا يحتكم لمثل هذه الطبائع ولا يعترف بوجود «القوانين الصحيحة التي تميّز بين الحق والباطل في الأخبار». وإلا كيف لفعل التذكر هذا أن يحتكم أو أن يعترف بمثل هذه «القوانين الصحيحة» إذا كان هو أحد المكونات المهمة لهوية الجماعات الثقافية؟ تتأسس الهوية الثقافية على تاريخ الجماعة أو على ما تتوهم أنه تاريخها الخاص، بل ثمة هويات تقوم على حدث مؤسّس مثل يوم انتصار الثورة ويوم الاستقلال الوطني ويوم النكبة الوطنية وغيرها. ما يعني أن بنية هذه الهويات معرّضة للاهتزاز في حال جرى الاحتكام لقوانين التاريخ «الصحيحة» التي يتحدث عنها ابن خلدون. ولأن الجماعات لا تميل إلى وضع هوياتها الثقافية موضع المجازفة فإنها تعمد إلى مصادرة أي وجود لمثل هذه «القوانين الصحيحة»، اللهم إلا إذا كانت هذه القوانين نافعة وتخدم هذه الجماعة أو تلك في إثبات تفوقها وتجذّرها وعراقتها. وهذا الاستثناء الأخير هو الذي يجعل الذاكرة محكومة دوما بالاستعمال النفعي والتذكر المغرض سياسيا وأيديولوجيا. الأمر الذي يفرض علينا التذكير بما يمكن أن نطلق عليه هنا «أخلاقيات التذكّر» والتي تشمل التذكّر المسئول، والتذكّر السمح والمتسامح والمتسم بالسخاء وتقبل الاختلاف والتنوع. وهذا يعني أن فعل التذكر ينبغي أن يبقى حرّا ومتحررا من ضغوط الدولة، وحتى من إكراهات القانون؛ لأنه يقع في المنطقة التي يتعذر على القانون بلوغها، إنه يقع فيما وراء القانون والإجراءات القضائية. وهذه قضية سنعود إلى تناولها بتوسع في مقالة مقبلة.
ليس التذكّر شأنا للدولة، بل هو شأن الناس أنفسهم، إذ يحق لهم أن يتذكروا ويتجادلوا فيما بينهم في الفضاء العام. ويتحدد الفضاء العام هنا من خلال تحييد مجال الدولة، وهو ما يسمح ببروز مساحة مفتوحة ينخرط فيها المواطنون من أجل النقاش الحر عن قضاياهم وشئونهم العامة، ومن بينها التناول العام للتاريخ واستحضار الماضي من خلال النشر الورقي والإلكتروني وأجهزة الإعلام المتنوعة، ومن خلال الملتقيات والمؤتمرات والندوات والمحاضرات وغيرها من أشكال التجمع بقصد التداول المفتوح في الشأن العام.
يتميّز هذا الفضاء العام عن الدولة، كما أنه يختلف عن الفضاء الخاص في كون هذا الأخير خاضعا لملكية جماعة بعينها، وأن تداول النقاش فيه يجري ضمن دائرة تواصل مغلقة على أبناء الجماعة نفسها. وهو مؤسس على قناعات يجرى تعزيزها باستمرار. ولهذا فإن العواقب السلبية لاستعمالات الذاكرة تكون محدودة في هذه الفضاءات الخاصة. إلا أن خطورتها أنها تعبّئ الأفراد بإيمان مغلق بحقيقة تاريخهم المتفرد، وهو الإيمان الذي يضع العوائق في وجه فعل التواصل العمومي، وذلك حين ينتقل النقاش من دائرة الفضاء الخاص المغلق إلى الفضاء العام المفتوح. إلا أن الرهان في تجاوز هذه العوائق معقود على قدرة الفضاء العام على خلق التوازن المطلوب لإنجاز فعل التواصل. ويستمد هذا الرهان مشروعيته من قناعة قديمة نظّر لها كثير من دعاة الديمقراطية الليبرالية والمجتمع المدني، وهي القناعة التي تقول إن الديمقراطية الليبرالية - أي التواصل الحر بين الأفراد والجماعات - قادرة على توفير التوازن السياسي حتى مع غياب المواطنين المثاليين والفضلاء. وهم يرجعون هذه القدرة إلى مسلمة أساسية تفترض أن النظام الجماعي الذي تتوزع سلطاته بتوازن قادر على تصحيح الأخطاء التي تطرأ عليه بفعل الهيمنة وطغيان جهة على أخرى، و»إذا كان كل شخص يجري وراء مصالحه الذاتية الخاصة، ومن دون اعتبار للصالح العام»، فإن عواقب هذا السلوك لن تكون كارثية، لأن تعارض المصالح الخاصة يعني أن «مجموعة من المصالح الخاصة سيجرى كبحها من قبل مجموعة أخرى من المصالح الخاصة» (Theorizing Citizenship, P.291)، وهو المبدأ الذي يطلق عليه في العلوم السياسية بـ «حدّ أو ردع السلطة بالسلطة» Checks and Balances. وبهذا المعنى فإن انخراط الجميع في فعل التذكّر داخل الفضاء العام سيجبرهم على الخضوع لمبدأ «حدّ السلطة بالسلطة»، ما يعني تعطيل تلك الأزمات التي تنتج عن طغيان ذاكرة خاصة على أخرى، أو فرض هذه الذاكرة على الجميع.
وعلى رغم وجاهة هذا التحليل، إلا أنه لا يخلو من مثالية وثقة عمياء بالديمقراطية الليبرالية وأجهزتها ومؤسساتها القادرة على تعطيل طاقة الشرّ الكامنة في البشر، والقادرة على كبح نزوعهم الغريزي إلى الهيمنة والاستبداد والطغيان والاستئثار بكل الخيرات المادية والرمزية لصالحهم. والدليل على ذلك أن المجتمعات التي تطبق الديمقراطية الليبرالية غير منزهة من الشرّ الناتج عن استعمال الذاكرة واستحضار التاريخ وتوظيفه سياسيا وأيديولوجيا. ما يعني أن هذه المؤسسات والأجهزة ليست كافية، وهذا ما يجعل البعض يطالب بضرورة توفر قدر ضروري من «الفضيلة المدنية» التي تسمح بتصحيح وكبح الميول الأنانية والنفعية الجشعة لدى الأفراد والجماعات. ولهذا صارت الحاجة ماسّة للتأكيد على ما يسميه إدوارد شيلز بـ «فضيلة المجتمع المدني» التي تضمن الانتماء الطوعي إلى هذا المجتمع من جهة، وتضمن، كذلك، ممارسة «التوجيه الأخلاقي نحو أخلاقيات الالتزام بالمصلحة العامة الأساسية والمميزة» (المجتمع المدني في العالم الإسلامي، ص103)، والتي تعني ضرورة الاهتمام بمصلحة الجميع سواء كانوا من أعضاء الجماعة التي ينتمي إليها المرء، أو من أولئك المختلفين من أبناء الجماعات الأخرى.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1845 - الإثنين 24 سبتمبر 2007م الموافق 12 رمضان 1428هـ