العدد 1844 - الأحد 23 سبتمبر 2007م الموافق 11 رمضان 1428هـ

«هَسّة» الفَرَحْ مَمْنُوْعْ عَن العِراقيين

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عندما أقرأ أن نائب رئيس جمهورية العراق طارق الهاشمي قال لنزلاء سجن حديث في بغداد يضم زهاء الثلاثة آلاف سجين بأن «ما أنتم فيه هـو ظلم لا يمكن أن نقبل به، وهو عار علينا جميعا» فإن ذلك يعني أن الحكومة العراقية ليست هي صاحبة الكلمة والسلطة في إدارة العمل الأمني وتسيير الإجراءات الجنائية الخاصة بمواطنيها، خصوصا وأن الرجل هو نائب رئيس الجمهورية وليس ساعٍ للبريد أو جابيا لفواتير الكهرباء! وعندما أسمعه مرة أخرى يُخاطبهم جهارا بأنكم أيها السجناء «محظوظون جدا، على الأقل لأنكم تنعمون بالأمان هنا، فالناس في الخارج لا يأمنون على حياتهم» فهذا يعني أن العراق أصبح غابة وليس دولة، إذ كيف يُعقل أن يكون السجن أفضل وسيلة للبقاء على قيد الحياة، في حين تُصبح الحرية المقصلة التي تهبك الموت بالطريقة التي يراها الجناة؟! لكن الهاشمي ربما كان أفصح من غيره من الساسة العراقيين الذين اعتادوا على الفذلكات والكذب البيّن، فالهاشمي أنتج فتحا صريحا لما يجري على الأرض في بلاده، فهو لم يقل إلاّ ما يحصل وما هو حاصل فعلا، فبلاد الرافدين ومنذ الاحتلال الأميركي باتت تدفع أكلافا استثنائية على كل المستويات، تخريب المؤسسات المدنية، وتشطير المتعاضدات الاجتماعية ومن ثم فرزها طائفيا، وتمكين الاحتلال ووضعه ضمن نسيج الدولة وحراكها اليومي، بل ولأول مرة في التاريخ يحصل فيه أن دولة تحتل بلدا وتُعلن أنها ستنسحب منه في حين يُصرّ البلد المحتل على بقاء مُحتليه مدة أطول! ولأول مرة يحصل أن الأمم المتحدة تُصدر قرارا يصف الوجود العسكري الأميركي والبريطاني في العراق بأنه احتلالا في حين يُصرّ الساسة العراقيون على تنعيم تلك التسمية ونعتها بالقوات متعددة الجنسيات وقبلها بقوات التحرير! السبب بسيط وهو أن هؤلاء الساسة الجُدد هم غرباء على العراق ولا يُتقنون فك رموزه وميكانيزماته على رغم أنهم عراقيون بالتذارر فقط، ولأنهم مصدومون بما آلت إليه أوضاع البلد الذي مَنّوا أهله وناسه بحلم الدولة المتماسكة العادلة القوية، وهم يرون مشروعهم مات في محراب العمالة قبل أن يُولد، وإذا كان الناس في السابق لا يرون في صدام حسين ونظامه إلاّ صورة جليّة للقمع والاضطهاد والتنكيل، فإنهم اليوم وبسبب ضياع الهوية وانكسار الحاضر وسواد المستقبل بسبب نخبة العراق الجديدة المُتأمركة باتوا يترحمون عليه كلما حصل تفجير أو أزيحت عوائل من مرتعها أو امتلأت مشرحة بغداد بالجثث المجهولة، وهي نهاية لم يكن أحد ليتخيل أنها ستحصل على اعتبار أن جرائم البعث أنست من قبلها وأتعبت من بعدها، فالهاجس الأمني أصبح كالدولاب الذي يستقيم على إيقاعه كل شيء، السياسة والاقتصاد والاجتماع وحياة الناس العادية، بل حتى النواحي الصحية أمست تلابيها مُجتَرّة إلى حيث مركزه وبوصلته، وقد أفادت الدراسات الأخيرة أن أربعين نوعا من الأمراض النفسية باتت أقفالا على قلوب وعقول الملايين من العراقيين بسبب العنف والقتل والتهجير في ظل وجود طبيب واحد لكل ثلاثمئة ألف مريض نفسي!! وقد سمعت أحد الاستشاريين النفسانيين مرة يتحدث عن أمارات ذلك الوضع بالإشارة إلى الضحك أو البكاء بصوت مرتفع، أو الحديث بصورة حدّية وهي سمات باتت واضحة في شخصية الفرد العراقي، لكن الأمرّ هو أن المسوحات النفسية قد أظهرت أن المشمولين في الاستطلاعات قد أفادوا بتعرضهم لـ 3504 حوادث عنيف منذ مجيء صدام حسين إلى الحكم نهاية السبعينات ولغاية انهيار حكمه، في حين أفادوا بأنهم قد تعرضوا لـ 6463 حادث عنف منذ الاحتلال الأميركي إلى العراق في 9 أبريل/نيسان في العام 2003 ولغاية إجراء الاستطلاع، والأغرب أن الطلاب الصغار الذين شهدوا عمليات العنف والتفجير والأعمال الطائفية وأصيبوا بأمراض نفسية حادة باتت سلوكياتهم تعكس مدى منسوب الصور المترسخة في أذهانهم، بل إن الكثير منهم باتوا مُدمنين على سؤال بعضهم بعضا في المدرسة بذات الأسئلة التي يتداولها أمراء الحرب الطائفية في العراق: هل أنت شيعي أو سنّي؟! ويتسمّون في ألعابهم بأسماء الجماعات المسلحة كالقاعدة وفيلق بدر وجيش المهدي وجيش عمر.

في منتصف الشهر الثامن من العام الجاري ذكر الزميل حسين علي حادثة تدل دلالة واضحة على طبيعة الصراع الطائفي القائم ومنسوبه وفترات تصاعده، فقد أفاد زميلنا بأن أحد المعتقلين ويُدعى عطاء داوود وهو سُنّي كان محتجزا في سجن الكاظمية لمدة ثلاثة أعوام من قِبل القوات الأميركية والعراقية قد أطلق سراحه ليواجه واقعا طائفيا مُرّا وخريطة غير مألوفة لمفارز مذهبية لا يستوعبها أحد، فهو قبل اعتقاله كانت مورفولوجيا الطائفية لاتزال مكتومة ولا يُتحدث عنها على أنها حرب مُمنهجة في طريقة الإقصاء، وكانت مقتصرة فقط على منتسبي القاعدة ضد الجيوب الشيعية في أحياء بغداد والمناطق الغربية، ولم تنزلق في سوادها الميليشيات الشيعية إلاّ بعد تفجير مرقد العسكريين في فبراير/شباط من العام 2006، يضيف الزميل بأن عطاء داوود وبعد ركوبه للحافلة التي أقلّت السجناء المُفرج عنهم إلى منطقة العلاوي التي تحوي محطة الحافلات الرئيسية، نزل عطاء ليبحث له عن سيارة أجرة تُوصله إلى منزله بحي الضباط السُنّي، إلاّ أنه وبعد رفض متكرر من سائقي الأجرة الذين يعلمون جيدا كيف تجري الأمور هناك في حين يجهلها هو لغيابه الطويل في السجن؛ اتفق مع أحدهم أن يُوصله إلى حي الجهاد الشيعي القريب من حي الضباط، فوافق المسكين على الفور ظنا منه أن الطريق سيكون سالكا إلى بيته، فالحيّان متجاوران ولا يفصلهما سوى مسافة مرمى حجر، من دون أن يُدرك حجم الاحتراب الطائفي البغيض بين الحيّين من متطرفي السُنة والشيعة في العاصمة بغداد، لذا فإنه وعندما نزل عطاء إلى حي الجهاد مجتازا أزقّته اعترضه مسلحون مجرمون، وبعد التدقيق في هويته وسؤاله قاموا بقتله بدمٍ بارد ورميه على قارعة الطريق! وعند سؤال أهله عنه لدى إدارة السجن أبلغتهم الأخيرة بأن عطاء قد أفرج عنه منذ أسبوع وأنه وُجَد مقتولا وهو الآن في المشرحة الرئيسية ببغداد!

بطبيعة الحال هذه حالة واحدة ضمن مئات الآلاف من الحوادث التي وقعت وتقع في محافظات العراق المختلفة يكون ضحاياها سُنّة وشيعة، ولمن يريد أن يُدرك حقيقة الفرز فعليه أن يُعاين الخريطة الجديدة للعاصمة فالسُنة يعيشون في الجانب الغربي من بغداد، في حين يقطن الشيعة في شرقها وتفصلها موانع نفسية وثارات ودم، وبات الجميع يحرص على حمل العديد من الهويات المذهبية لكي يستطيع اجتياز حاجز هنا أو حاجز هناك والهروب من هذا الجحيم، سواء إلى مناطق أكثر أمنا في داخل العراق أو إلى دول الجوار، وقد أعلنت الأمم المتحدة أن العنف في العراق أدى إلى أكبر موجة نزوح في الشرق الأوسط منذ قيام الكيان الصهيوني في العام 1948، وأن واحدا من كل ثمانية عراقيين نزحوا عن ديارهم، وأن نصف مليون شخص تركوا منازلهم خلال الأشهر الستة الأخيرة فقط، وأن مليوني شخص غادروا البلاد في حين نزح أكثر من مليون وسبعمئة ألف شخص داخل العراق.

وإذا كان هذا حال العراق أليس من العيب أن يبقى أحدٌ من هؤلاء السياسيين في السلطة؟!

بل أليس من العيب أن يقول أحدهم أو يدعي بأنه ضمن طبقة سياسية موالية أم معارضة ضمن فضاء هذه السلطة الموبوءة، هذه الطبقة التي لم تستطع أن تُرجع حقوق السجناء في سجن أبي غريب من شارلز غلرنر، وتمسح من ذاكرتهم إجباره لهم على أكل لحم الخنزير وشرب الكحول وسب الإسلام، والأكل من المرحاض، كيف يُمكن لهؤلاء أن يستمروا في السلطة لولا طمعهم بها لا أكثر ولا أقل.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1844 - الأحد 23 سبتمبر 2007م الموافق 11 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً