العدد 1843 - السبت 22 سبتمبر 2007م الموافق 10 رمضان 1428هـ

زيارة رايس في الوقت الضائع

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

جاءت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس وجالت في المنطقة وعقدت لقاءات في رام الله وتل أبيب وعادت من حيث بدأت. فالزيارة التي سجلت رقم ستة منذ مطلع العام الجاري كان بإمكان الوزيرة الاستغناء عنها لأنها لم تضف على سابقاتها الشيء الكثير. الجديد في الزيارة الأخيرة أنها حاولت ترويج دعوة الرئيس جورج بوش إلى «مؤتمر دولي» يعقد في الخريف المقبل. ولكن الوزيرة لم تحمل معها تلك التصورات الناضجة بشأن أزمة «الشرق الأوسط». وكل ما ذكرته من جديد مجرد وعود غير رسمية. فهي أكدت أن المؤتمر ليس شكليا ولا يستهدف تلميع صورة الرئيس بوش ولا يريد الاكتفاء بأخذ صورة تذكارية وداعية لقادة المنطقة يصافحون فيها رئيس الحكومة الإسرائيلي إيهود أولمرت.

تأكيدات رايس بحاجة إلى تدقيق، فهي وعدت بطرح القضايا الجوهرية والأساسية (ترسيم حدود الدولة، القدس، عودة اللاجئين) ولكنها اقترحت سياسة مرحلية تبدأ بالضفة أولا والقطاع ثانيا. عملية الفصل تعطي فكرة سريعة عن مشروع تشطير «الدولة» الموعودة وعزل الضفة عن القطاع من خلال الترويج لفكرة «الدولة أولا» في الضفة ثم «الدولة ثانيا» في القطاع.

الفكرة الجديدة الثانية التي أطلقتها رايس في زيارتها الأخيرة تركزت على أن لا مانع لدى واشنطن بفتح قنوات اتصال بين تل أبيب ودمشق. ووعدت الوزيرة حكومة أولمرت بأن إدارة «البيت الأبيض» لن تعرقل اتصالات بين الطرفين في حال اتجها نحو هذه الصيغة.

إطلاق سراح الاتصالات الثنائية من دون رقابة أو عراقيل أو محاولات تعطيل تعني سياسيا أن الولايات المتحدة قررت للمرة الأولى منذ العام 1990 العودة إلى فكرة «الوكالة الإقليمية» التي اعتمدتها طوال أربعة عقود. ولكن الوزيرة لم توضح حدود ذاك الهامش الدبلوماسي الذي يمكن أن تتحرك تل أبيب في إطاره؟ كذلك لم تتقدم بصيغة سياسية تكشف عن الدور الإسرائيلي المستقل في دائرة كبرى تتجاذبها مصالح القوى الدولية والإقليمية في منطقة استراتيجية وحيوية يطلق عليها «الشرق الأوسط الصغير أو الكبير أو الجديد».

الكلام العام الذي جاءت به رايس كان بالإمكان الاستغناء عنه أو قوله من واشنطن. فالسياسة الاحتلالية الإسرائيلية واضحة ومعروفة وإدارة البيت الأبيض على اطلاع يومي على تفصيلاتها. والوعود التي أطلقتها من رام الله وتل أبيب بقصد جذب الانتباه إلى زيارتها كان بالإمكان إعلانها رسميا من واشنطن هذا إذا كانت إدارة بوش مقتنعة بوجوب تغيير العلاقات والتكتيات التي مرّ عليها الزمن الطويل ولم تثمر سوى المزيد من المآسي والكوارث.

هناك الكثير من القرارات أو الخطوات الميدانية التي تستطيع واشنطن اتخاذها من دون حاجة لإرسال وزيرة الخارجية في زيارة إعلامية الهدف منها استهلاك الوقت وتقطيع الأيام قبل اقتراب موعد «المؤتمر الدولي».

مسألة الأسرى (10 آلاف معتقل) لا تحتاج إلى زيارة سادسة أو سابعة للمنطقة. وإنما هي تتطلب ذاك القرار السياسي الذي يشي بوجود استعداد للتعامل مع الشعب الفلسطيني بأسلوب مختلف يحترم حقه بالمقاومة. وما يحصل ميدانيا يؤشر إلى اتجاه معاكس. أولمرت مثلا وعد الرئيس الفلسطيني محمود عباس بإطلاق سراح 250 أسيرا بعد انشقاق حماس (قطاع غزة) عن فتح (الضفة) وكانت النتيجة أن تل أبيب نفذت عمليات قتل واعتقلت 800 فلسطيني جديد قبل وبعد تنفيذ الوعد. وأولمرت مثلا وعد بتخفيف الحواجز والموانع والفواصل التي يقيمها الاحتلال في الضفة وتقطع أوصال أهل المدن والقرى لم ينفذ منها سوى القليل. حتى الآن يوجد 476 ساترا (ترابيا وأسمنتيا) و96 حاجزا عسكريا تعطل حياة الناس وعلاقاتهم وتجارتهم.

رايس في جولتها الأخيرة جاءت في الوقت الضائع إذ تحدثت عن عموميات وأطلقت الوعود بقصد جذب الانتباه إلى أهمية «المؤتمر الدولي» وتعويل الرئيس بوش على نجاحه. ولكن الواقع الميداني الذي يعيشه يوميا الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال يشير إلى أن سياسة أولمرت لم تتراجع قيد أنملة عن السابق. فالحكومة ترفض حتى الآن البحث في «القضايا الحساسة» و «الأمور الحيوية» وهي غير مقتنعة بوضع إطار للتفاهمات والاتفاق على آليات وتحديد السبل القانونية الكفيلة برسم خريطة طريق توضح معالم تنفيذ القرار 194 (عودة اللاجئين) والقرار 242 (الانسحاب من الأراضي المحتلة والقدس).

الواقع اليومي

العموميات التي أشارت إليها رايس تتجاوز الواقع الميداني اليومي وتتجه فورا إلى القضايا المبهمة من دون انتباه لخطورة الواقع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ اندلاع انتفاضة الأقصى. فهذا الشعب يعاني العزلة، والاحتلال يمعن في تقطيع أوصاله وجرف أراضيه وقراه ومنازله بذريعة بناء «جدار الفصل العنصري». والشعب أيضا الذي ينتظر الإفراج عن عشرة آلاف أسير يعيش يوميا حالات اقتحام وإعادة احتلال واختراق وغارات وملاحقات واعتقالات في القطاع والضفة على السواء. الإحصاءات الأخيرة تشير مثلا إلى أن الاحتلال قتل منذ اندلاع «انتفاضة الأقصى» 635 طالبا مدرسيا و200 طالب جامعي و36 معلما، واعتقل 622 طالبا و180 مدرسا. والإحصاءات تشير إلى مقتل 868 طفلا خلال الفترة التي أعقبت الانتفاضة.

هذه الوقائع الميدانية والرقمية تؤكد أن المطلوب عمليا يتجاوز الكلام عن «العموميات» ويتخطى تكرار الوعود باقتراب الحل النهائي والاستعداد للبحث في الأمور الجوهرية. فالعموميات تحتاج إلى توضيح الإجابة عن سؤال بسيط وهو: هل حكومة تل أبيب في وضع يسمح لها بالذهاب نحو حل عادل يقوم على قرارات دولية واضحة في بنودها وأهدافها؟

إذا كانت «إسرائيل» أصبحت في وضع نفسي (ثقافي) وسياسي ووجودي يتقبل التعايش السلمي مع محيط جغرافي (عربي/ إسلامي) فلتبدأ حكومة أولمرت بخطوات عملية وميدانية وتأخذ بإطلاق سراح الأسرى وتفكيك السواتر ورفع الحواجز وهدم «جدار الفصل العنصري» وكسر الحصار عن غزة وفك العزلة عن الضفة. فمثل هذه الخطوات تعتبر إشارات حسية وملموسة وتملك قدرة على الإقناع أكثر من كل الزيارات والتصريحات والوعود التي تجلبها معها رايس في كل جولة.

«المؤتمر الدولي» الذي حاولت رايس الترويج له بهدف إعادة الثقة برئيس اهتزت صورته أميركيا ودوليا لا يحتاج إلى مزيد من الوعود بقدر ما يتطلب سياسة ميدانية تظهر وقائعها الملموسة على أرض فلسطين ومحيطها الجغرافي ودول الجوار. فالسياسة في النهاية ليست نظريات وتطمينات ايديولوجية فقط وإنما حركة ميدانية تظهر بعض الإشارات الملموسة على الأرض. وهذه المتطلبات الملحة والبسيطة تتهرب حكومة أولمرت منها وترفض التعامل معها بمرونة وإيجابية. فتل أبيب ترفض القبول بفكرة إخلاء منطقة «الشرق الأوسط» من السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل. وهي لا توافق على قرارات دولية مضى عليها عقود من الزمن. ومانعت للمرة الثانية في التعاطي بعقلانية ومسئولية مع مبادرة السلم العربية التي أطلقت في بيروت في العام 2002 وأعيد تأكيدها في مؤتمر الرياض في العام الجاري. وهي تآمرت على «تفاهم مكة» واعتبرته خطوة موجهة ضدها.

كل هذا الكم من السلبيات يؤكد على أمر بديهي وهو أن «إسرائيل» لاتزال تعتبر نفسها قوة خارجية أعلى من المنطقة العربية وأكبر من دائرة «الشرق الأوسط». وحين تفكر تل أبيب أنها «دولة مختارة» ومكلفة «بمهمات خاصة» فكيف يمكن تصديق إدارة واشنطن المتهالكة أن «المؤتمر الدولي» في الخريف ليس شكليا ويريد فعلا بحث القضايا الجوهرية.

زيارة رايس السادسة إلى المنطقة في أقل من سنة تؤشر على أن الفشل سيكون من نصيب «المؤتمر الدولي». فالمشكلة التي تتطلب من المنطقة مفتاحا للحل ليست في الدول العربية ولا هي موجودة في الشعب الفلسطيني وإنما تكمن في «الوكيل الإقليمي» والحليف الاستراتيجي الدائم للولايات المتحدة.

هذه الحقيقة التي تتجنب واشنطن البوح بها تشكل مفتاح الحل في حال قررت إدارة بوش أن يكون «المؤتمر الدولي» خطوة سياسية حاسمة تتجاوز إطار اللقاء الشكلي والتقاط صورة تذكارية. فهل رايس على استعداد لقول الحقيقة أم أن «خيار السلام» لايزال بعيدا عن الأفق المنظور؟ الدلائل تشير إلى أن استعداد «إسرائيل» للقبول بفكرة التعايش لايزال غائبا. وهذا الأمر يعني الكثير من الاحتمالات أولها أن أميركا نفسها ليست ناضجة كفاية للقبول بالفكرة ومنها أخيرا أنه لا جدوى من عقد «مؤتمر دولي» لا وظيفة له سوى تكرار أقوال أعيد صوغها مرارا وطوال عقود.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1843 - السبت 22 سبتمبر 2007م الموافق 10 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً