اغتيال النائب الكتائبي (المسيحي الماروني) عن مقعد دائرة بعبدا/ عاليه قبل أيام من موعد الجلسة الأولى لانتخاب رئيس للجمهورية أعاد طرح السؤال عن الدوافع الحقيقية لهذه الجرائم السياسية. فهل القتل يستهدف خفض عدد نواب الأكثرية إلى أقل من «نصف زائد واحد» لمنع عقد دورة قانونية أم أنه رسالة سياسية تتجاوز حدود الجغرافيا اللبنانية؟
إذا كان تحليل نواب الأكثرية هو الصحيح فمعنى ذلك أن القاتل يحتاج إلى ستة أو سبعة اغتيالات من الآن إلى 14 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل أي قبل عشرة أيام من الاستحقاق النهائي للانتخابات الرئاسية.
المنطق يقول إن المقدمة يجب أن تكون صحيحة حتى تكون قراءة النتيجة صحيحة. فإذا كان الهدف الوحيد من وراء سياسة الاغتيال هو منع الأكثرية من أن تكون أكثرية قادرة على انتخاب رئيس بمعزل عن الكتل النيابية الأخرى فلماذا إذا سمح القاتل بإجراء انتخابات فرعية في دائرتي بيروت الثانية والمتن الشمالي.
لا بد إذا من وجود قراءة أخرى لتداعيات الأزمة المفتوحة في لبنان منذ صدور القرار الدولي 1559 وتمديد نصف ولاية لعهد الرئيس اميل لحود. فمنذ ذاك العام (2004) وقعت في لبنان سلسلة اغتيالات وتفجيرات طاولت رجال إعلام وسياسة ووزراء ورئيس وزراء ونواب من دون أن تكون هناك صلة مباشرة بانتخاب رئيس للجمهورية. المسألة معقدة ومتشابكة وتتجاوز حدود بلاد الأرز.
ما يحصل في لبنان أكبر من البلد الصغير وقدرته على التحمل. وهذا الأمر ينبئ بوجود إشارات سياسية تتصل بتلك التجاذبات الاقليمية القائمة في منطقة «الشرق الأوسط». وبلاد الأرز في السياق المذكور تعتبر ذاك المجال الحيوي للتنفيس وهي ساحة مكشوفة ومفتوحة تعطي فرصة لتوجيه الرسائل لمن يريد.
القراءة السياسية لمسلسل الاغتيالات والتفجيرات والأزمات المتنقلة من الجنوب إلى بيروت والشمال و «نهر البارد» ثم بيروت والجنوب وغيرها من مناطق لا تلغي تلك القراءة الرقمية والحسابية المتداولة بشأن عدد نواب الأكثرية وتعطيل جلسة انتخاب رئيس للجمهورية. فالتعطيل ليس الهدف بقدر ما هو جزء من الهدف، ووسيلة من مجموعة أدوات يمكن اختبارها في ساحة تم التوافق على أن تعود كما كانت في عهدها السابق مفتوحه ومكشوفة لرصد اتجاهات الرياح الباردة والساخنة في المنطقة.
هناك أسئلة كثيرة مطروحة أمام «الأكثرية النيابية» اللبنانية وهي تحتاج إلى أجوبة سياسية وليست رقمية لمعرفة الاتجاهات العامة التي أخذت تتشكل ملامحها في المنطقة. والأسئلة يمكن أن تبدأ من العدوان على لبنان في الصيف الماضي. فهل القرار اتخذته حكومة ايهود اولمرت بمعزل عن رغبة أميركية؟ وهل يمكن أن تقدم تل ابيب على تقويض الدولة وتقطيع اوصالها لمدة 34 يوما من دون «ضوء أخضر» من واشنطن؟ وإذا كانت إدارة جورج بوش حريصة فعلا على «الديمقراطية اللبنانية» و «ثورة الأرز»، فلماذا سمحت لحكومة أولمرت بتحطيم البنى التحتية ودفع القوى الأهلية إلى داخل الساحات وتأمين الحدود الدولية بين لبنان و «إسرائيل».
العدوان على لبنان فشل في تحقيق أهدافه الكبرى من نوع تجريد المقاومة من سلاحها أو جرجرة الدولة إلى توقيع معاهدة صلح مع تل ابيب، ولكنه نجح في تحقيق بعض أهدافه الجزئية مثل تشطير المشروع العربي (اتفاق الطائف) وبعثرته إلى محاور اقليمية، وزعزعة استقرار البلد، وعزل المقاومة وإبعادها عن الحدود الدولية، ومحاصرة الحكومة وتعطيلها من الداخل، وتهريب الاستثمارات وغيرها من خطوات يرجّح أن تتواصل إلى أن ترتسم حدود المناطق والفواصل بين الطوائف والمذاهب.
عودة الساحة المكشوفة
أخطر ما أحدثه العدوان الأميركي - الإسرائيلي في الصيف الماضي أنه أعاد الساحة اللبنانية إلى عهدها السابق ورفع عنها المظلة العربية - الدولية التي تمت رعايتها في إطار «اتفاق الطائف». ورفع السقف كشف الساحة وفتح لبنان أمام تجاذبات دولية واقليمية يرجّح أن تتوضح صورتها في الأسابيع والأشهر المقبلة.
العدوان التدميري على لبنان كان إشارة واضحة لم تلتقطها «الأكثرية النيابية» وتقرأ شيفراتها السياسية. فبعد العدوان جرت الانتخابات التشريعية النصفية في نوفمبر 2006 وأنتجت في الكونغرس الأميركي ما يشبه ازدواجية في السلطة بين الرئيس والبرلمان. وبعد الانتخابات الأميركية صدر تقرير بيكر - هاملتون ونصحت توصياته اجراء اتصالات مع سورية وإيران ودول الجوار بشأن معالجة أزمة العراق وتوابعها في فلسطين و «الشرق الأوسط». وبعد التقرير بدأت الاتصالات السرية تخرج إلى العلن وظهرت خطوات ميدانية تكشف عن وجود تفاهمات «عملية» و «ميدانية» و «تقنية» و «فنية». ومن تلك الخطوات الاعتراف بحكومة نوري المالكي وفتح السفارات ورفع الاعلام وتبادل السفراء والزيارات البروتوكولية والسياسية.
كل هذه المتغيرات العملية والفنية والميدانية والتقنية تعتبر في مجموعها العام إشارات سياسية تدل على احتمال ظهور سياسة مغايرة لجوهر التصريحات والخطابات الايديولوجية. لبنان وفلسطين والعراق في هذا المعنى الاستراتيجي العام مجرد ساحات مكشوفة ومفتوحة للاختبارات التي تحتمل التنسيق إلى جانب توقعات أخرى. وما حصل في لبنان (حرب نهر البارد واتهام القاعدة بها) وفلسطين (تقسيم السلطة إلى حكومتين) والعراق (لقاءات تنسيق أميركية - سورية وأميركية - إيرانية) وغيرها من تطورات فنية وتقنية لا يمكن عزلها عن تحولات دولية ليست بسيطة. بوش مثلا يعاني العزلة الداخلية ومحاصر في «البيت الأبيض». ورئيس الحكومة البريطاني الجديد غوردون براون تختلف أولوياته عن الرئيس السابق طوني بلير. ورئيس فرنسا نيكولاي ساركوزي لا تتطابق رؤاه السياسية مع الرئيس جاك شيراك وخصوصا في موضوع لبنان. وروسيا الاتحادية بقيادة فلاديمير بوتين قطعت شوطا في استرداد موقعها المفقود في التوازن الدولي.
هذه المتغيرات والمتحولات تتطلب قراءة تتجاوز المعادلة الرقمية التي تلجأ إليها «الأكثرية النيابية» بعد كل جريمة اغتيال. فالسلسلة التي تداعت حلقة بعد أخرى منذ العام 2004 تؤكد أن لبنان عاد من جديد تلك الساحة المكشوفة والمفتوحة. فهذا البلد الصغير مهم ولكنه لم يعد كما كان في سابق عهده جوهرة شرق المتوسط. وهذا البلد له معنى ويحتل خصوصية ثقافية في الرؤية الأوروبية ولكنه لا يقع الآن على رأس جدول الأولويات.
الأولوية الأميركية في اللحظة الراهنة ليست لبلاد الأرز وإنما لبلاد الرافدين، ومن يساعد إدارة واشنطن في العراق ويسهل أمور جورج بوش في تلك الدائرة الملتهبة فإنه سيحصل على «جوائز ترضية» في مناطق أخرى. والانقسام اللبناني (الطائفي المذهبي) وضعف الدولة التقليدي وتزاحم زعماء الحروب على نظام الحصص كلها عناصر تساهم في تسهيل زعزعة بلاد الأرز وإعطاء ذريعة للتدخل والتلاعب وتقديم لبنان «جائزة ترضية» في سياق تجاذب المصالح الاقليمية. فالفوضى في أهواء الملل والنحل أرسلت إشارة سلبية عن أن «الفكرة اللبنانية» غير قابلة للحياة.
الولايات المتحدة كانت ولا تزال منذ تسعينات القرن الماضي اللاعب الأول والأقوى في دائرة «الشرق الأوسط». فهي المايسترو الذي يشرف على توزيع أدوار الفرقة في إطار استراتيجي عام يتجاوز الحدود الجغرافية لبلاد الأرز. ولهذه الاعتبارات المتداخلة في حساباتها القريبة والبعيدة لا بد من قراءة سياسية مركبة لمسلسل الاغتيالات تتجاوز تلك التحليلات الرقمية لعدد نواب الأكثرية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1842 - الجمعة 21 سبتمبر 2007م الموافق 09 رمضان 1428هـ