إن من دواعي الوفاء لشخصيةٍ علميةٍ كبيرةٍ مثل السيد مرتضى العسكري، تجديد الحديث عنه بعد رحيله، فالرجل على ضخامة عطائه العلمي الرصين، لم يلق رحيله اهتماما يليق بقامته، واقتصر الأمر على خبرٍ صغيرٍ في ذيل الشريط المتحرك أسفل شاشة بعض القنوات «الدينية».
العسكري بدأ رحلته مع العلم في مكتبة جدّه، قارئا نهما، يأخذ منها الكتب ليقرأها في الليل على سطح الدار، وكان لا ينام أحيانا حتى ينتهي من الكتاب، ويفاجأ أهله الذين يحسبونه نائما حين يأتون لإيقاظه بعد طلوع الفجر.
الرجل الذي سيبقى خالدا في مؤلفاته التاريخية القيمة، ستُسجّل له إسهاماته أيضا في محاولات تحرير الدين من الخرافات وإظهار الوجه الحقيقي لمذهب أهل البيت (ع) وصحيح السنة النبوية. كما تُذكر له جهوده المبكرة في تأسيس المراكز العلمية والثقافية والخيرية، وتأسيس المدارس والحوزات العلمية النموذجية كمؤسسات لضمان ديمومة العمل والعطاء الذي لا يستقيم مع الجهود الفردية في هذا العصر. أما الإنجاز الأكبر للفقيد الكبير، فتأسيسه كلية أصول الدين في بغداد، لتكون نواة لجامعة إسلامية.
الريادة والسبق هنا لكونها جهودا بدأت منذ الأربعينات، في وقتٍ اشتدت الهجمة الغربية على الشرق، واستخدم فيها التبشير جسرا للغزو الفكري بين جسور أخرى، حين كانت مدارس التبشير تلتقط الطلاب من حواري المدن الإسلامية كالقاهرة وبغداد ودمشق.
الرجل الذي تخصّص بالبحث والتنقيب في كتب التاريخ ويخرج منها الدرر والجواهر وينسف الخرافات والأساطير، لم يكن بعيدا عن عالم السياسة، وكان من الطبيعي أن يهتم بالدفاع عن القضية الإسلامية الأولى (فلسطين)، فضلا عن اهتمامه الجاد بالتقريب بين المذاهب الإسلامية. بل إن عيشه بين الناس في سامراء، المدينة العراقية الصغيرة المختلطة، دعاه إلى التفكير بكتابة سيرةٍ تقرّب وتجمع بين السني والشيعي، ليس بقصد «إعادة كتابة تاريخ بدر وأحد والخندق»، كما يقول، بل «كتابة سيرة يتفق عليها المنصفون من كلا الطرفين».
المحقّق العسكري، الذي رحل إلى بغداد واستقر في الكاظمية، التقى هناك بالكاتب أحمد أمين، صاحب كتاب «التكامل في الاسلام»، وأسّسا منتدى النشر هناك. كما كان يرتقي المنبر ويمارس الخطابة ويلقي الدروس عن التاريخ والعقيدة والحديث والتفسير.
وربما يشوقك أن تعرف انه قام بافتتاح مستوصفات في بعض مناطق بغداد (الكرادة الشرقية والكاظمية)، وتأسيس عدة مدارس ابتدائية وثانوية للجنسين، إلى جانب معاهد تربوية ومهنية خرّجت الكثير من الكفاءات، فضلا عن المكتبات وصناديق القروض الخيرية. فعالم الدين إذا أحسن توجيه المال الشرعي أتى بالكثير من الانجازات التي تثمر على الأرض، ولا تذوب وتتبخر في مناطق مجهولة تثير الكثير من التساؤلات.
الباحث المحقّق، رحل اليوم وترك بصماته واضحة، خصوصا في مجال الدراسات الفكرية والبحوث التاريخية، كما ترك وراءه آلاف القراء النهمين في مختلف الأقطار.
رحل العسكري في صمت، لم تنتبه لعبوره المؤسسات الدينية ولم يفتح علماء الدين مجلس عزاء. و«القنوات الدينية» التي تهتم بصناعة «النجوم» لم تهتم بإيراد أكثر من خبرٍ سريعٍ في ذيل الشاشة، فهكذا تقدير العلماء والمفكرين في عصر الفضائيات.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1840 - الأربعاء 19 سبتمبر 2007م الموافق 07 رمضان 1428هـ