المجزرة التي ارتكبتها شركة «بلاك ووتر» الأمنية الأميركية وأدّت إلى قتل 11 مدنيا وجرح 20 مواطنا في بغداد شكلت مناسبة سياسية للكشف عن هذه الشبكة وموقعها ودورها الخاص في العراق بعد الاحتلال في مطلع العام 2003. الجريمة كانت مكشوفة وواضحة إلى درجة أن رئيس حكومة من صنف نوري المالكي عجز عن تحمّلها وتغطيتها الأمر الذي دفعه إلى إطلاق تصريح يطالب بسحب ترخيص عملها في بلاد الرافدين. ردّة الفعل أملت على وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس المبادرة إلى الاتصال بالمالكي وتوضيح الموقف مع وعد بإجراء تحقيق بالموضوع. وبانتظار التحقيق الذي يرجّح ألا يرى النور بدأت الأخبار تنتشر بشأن هذه الشركات الخاصة ومدى علاقتها السرية بالاحتلال وهل هي فعلا رسمية أم إنها شبكة أمنية تكلف بمهمات قذرة وتقوم بعمليات مشبوهة ضد المدنيين والمراكز الدينية والمراقد والمساجد والحسينيات بقصد إثارة الفوضى وجرجرة أهل البلاد إلى اقتتال طائفي ومذهبي كما حصل وفق خطة مدبرة منذ أربع سنوات؟
حادث القتل الذي جرى في وضح النهار طرح أسئلة ورجّح أجوبة بشأن وظائف هذه الشركات ومهماتها الحقيقية التي تتجاوز تلك الأدوار المعلن عنها رسميا. من الناحية الرسمية تبيّن بالملموس أنّ هذه الشركات المستقلة تعمل في العراق من دون تراخيص من «دولة» قُوّضت ولم تعد موجودة. فالتراخيص غير موجودة أصلا حتى تعلن حكومة المالكي أنها بصدد إجراء ترتيبات قانونية تُمهّد لإلغاء نشاطها. والاتفاقات التي وقعتها الشركات جرت بأسلوب سرّي وضمن قنوات خاصة مع إدارة الاحتلال.
الاحتلال الأميركي هو الجهة الوحيدة المطلعة على دور هذه الشركات ووظائفها والمهمات الموكولة إليها. ويرجّح في هذا السياق أن يعمد الاحتلال إلى تغطية الفضيحة والعمل على تقطيع الوقت حتى تهدأ ردود الفعل السلبية التي صدرت عن جهات متعاونة مع القوات المحتلة.
«بلاك ووتر» ليست الشركة الأمنية الوحيدة العاملة في العراق تحت مظلة الاحتلال. فهذه الشركة واحدة من عشرات تعاقدت معها إدارة الاحتلال قبل الغزو بذريعة حماية المؤسسات الرسمية والإدارات والشخصيات والهيئات والسفارات والقنصليات. وبسبب هذه الوضعية الخاصة تم توقيع عشرات الاتفاقات مع شركات مجهولة الهوية والعنوان وتضم شبكات من المرتزقة والمحترفين وضباط وجنود سابقين تقاعدوا أو سُرّحوا عمدا للانخراط في أعمال قذرة مقابل رواتب عالية تتراوح بين 450 و650 دولارا في اليوم للفرد الواحد.
حتى الآن لا يعرف عدد الشركات ولا حجم قواتها ولا دورها الخاص ووظائفها وأعمالها السرية وتكليفها بمهمات قتل المدنيين وتفجير الأحياء السكنية وارتكاب مجازر ضد الناس بقصد إثارة الفوضى ونشر الفزع وإجبار الأهالي على مغادرة منازلهم إلى ملاذات آمنة.
وبسبب هذا الغموض الذي يكتنف تلك الشبكة الأمنية المجهولة اضطر «معهد بروكينغز» إلى تكليف الخبير بيتر سينغر برصد هذه الشركات وتوضيح مواصفاتها ودورها ومهماتها. وبعد تقصّي الحقائق توصّل الخبير العسكري المذكور إلى التقاط إطراف اللعبة والتعرف على بعض خيوط الشبكات السرية ولكنه لم ينجح في كشف الغطاء عن تفصيلات كثيرة ومشبوهة. فالخبير سينغر ألّف كتابا عن الموضوع تحت عنوان «جندي متعاقد» أوضح فيه أنّ هذا النوع من النشاط لا يزال في طور التأسيس ويشير إلى احتمال «نشأة صناعة عسكرية خاصة» تنمو خارج المؤسسات الرسمية وتكلف بمهمات خاصة (تخريب، نسف، اغتيال) لا تقوى قيادة الجيش على تحمّل مسئولياتها.
فرق موت
الكاتب الخبير أثار أسئلة تؤشّر إلى شبهات بشأن هذه الشركات الأمنية. فهو مثلا لم يتوصل إلى تحديد عددها النهائي بسبب انتشارها الأفقي وعدم وجود أنظمة تضبط تعاقداتها قانونيا. ولكنه رجّح أن تكون الشركات المجهولة الاسم والعنوان نجحت في تجنيد قوات سرية يبلغ تعدادها بين 20 و48 ألفا تكلف بتنفيذ «عمليات تكتيكية». واعتبر أن حجم «الجيش السري» يعادل عديد قوات الدول المتحالفة مع الاحتلال الأميركي للعراق. ومشكلة هذه «الجيوش» الأمنية أنها غير خاضعة للقوانين ولا تعترف بالشرعية الدولية وما تنص عليه اتفاقات جنيف والأمم المتحدة. فهي شبكات سرية تعتمد على مرتزقة وقتلة ومحترفين يرتبطون بأنظمة خاصة تغطي أفعالهم وتعطي جنودهم حماية بسبب تمتّع الشركات بنوع من الاستقلالية المضبوطة بهرمية عمودية قيادية منفصلة عن جيش الاحتلال الأميركي. وبسبب هذا الهامش من الاستقلال التنظيمي تستطيع الشركات القيام بمهمات قذرة أو تكلف بأعمال خاصة لا تخضع لقوانين الأخلاق المعتمدة دوليا في التعامل مع السكان والمجموعات المدنية.
جيوش «القطاع الخاص» هذه ليست في النهاية بعيدة عن فضاءات قوات الاحتلال الأميركية. فهي تستطيع الادعاء أنها غير مرتبطة مباشرة بإدارة الاحتلال ولكنها غير قادرة على إثبات دورها المستقل نهائيا عن سياسة احتلالية اعتمدت منذ الأسابيع الأولى على الغزو نهج التقويض المبرمج للدولة والعلاقات الأهلية. وادعاء الاحتلال أنه غير مسئول عن أفعالها القذرة وأنه لا يعلم عنها ولا دور له في استيرادها وتشجيعها والتنسيق معها وتكليفها، مجرد كلام لا معنى له في إطار مشروع استراتيجي أشرفت إدارة واشنطن على تنفيذه ميدانيا.
شركة «بلاك ووتر» التي انفضح أمرها أمس الأول تعمل رسميا مع وزارة الخارجية الأميركية بموجب عقود خدمات وقعت مع شركتين وهما «داينا كورب» و«تريبل كانوبي». والشركة التي تعمل في العراق تحت ستار حماية السفارة الأميركية ومرافقة تحركات الدبلوماسيين تعاقدت من خلال قنوات خاصة مع إدارة الاحتلال للعمل في نطاق يقع خارج مسئولية الجيش الرسمي. فالجيش حتى لا يتورط في فضائح وتلطخ سمعة إدارة واشنطن وتتهم بارتكاب مجازر طائفية ومذهبية ضد المدنيين وفي الأحياء ذات اللون الواحد لجأ إلى توكيل تلك المهمات القذرة إلى شركة «أوني بتريل» لتنفيذ أعمال أمنية خاصة بالتعاون مع شبكات أخرى مجهولة العنوان والهوية وينتمي أفرادها إلى مخابرات وأجهزة أمنية (الموساد مثلا).
المجزرة التي ارتكبتها «بلاك ووتر» في بغداد شكلت مناسبة سياسية لفتح ملف أمني خطير يتوقع أن يكون له صداه الإعلامي وتداعياته على صعيد كشف دور هذه الشبكات (الجيوش السرية) ومهماتها ووظائفها. وادعاء إدارة الاحتلال البراءة وعدم المعرفة لا يعطل إمكانات البحث عن طبيعة قوات استجلبت تحت ستار ضبط الأمن لترتكب تجاوزات ساهمت في حدود نسبية في إثارة فتنة أهلية (طائفية ومذهبية) لاتزال نيرانها ملتهبة حتى الآن.
الاحتلال الأميركي يتحمل المسئولية القانونية مهما حاولت إدارته تجاهل الأمر والتهرب من الإجابة عن أسئلة كثيرة تتصل بوظائف شركات خاصة تعتمد أسلوب «الشبكات السرية» وتقوم بمهمات أمنية غير مشروعة أو مفهومة وبموازنات طائلة تفوق مئات الملايين من الدولارات شهريا. وهذا النوع من التعاقدات الذي لجأت إليه إدارة الاحتلال لا يخفف من مسئولية واشنطن ودورها في تأسيس «فرق موت» تتألف من مرتزقة وقتلة وجواسيس وعناصر مخابرات وأجهزة تهريب واغتيالات وتكلف القيام بمهمات قذرة بموجب اتفاقات سرية وعقود خاصة لا يطالها القانون ولا تحاسب دوليا على أفعالها.
هناك الكثير من الأوراق السرية لاتزال في الملفات وهي تحتاج إلى وقت لانكشاف أمرها. والجريمة التي وقعت مصادفة في وضح النهار في بغداد تُعتبر ورقة من ملفات سرية ستتوضح أمورها، وربما تساعد معلوماتها في إعادة كتابة خلفيات الحرب على العراق وما آلت إليه بلاد الرافدين.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1840 - الأربعاء 19 سبتمبر 2007م الموافق 07 رمضان 1428هـ