أعطى الطرح والجدل المتصاعد عن الحاجة إلى وجود قانون للوحدة الوطنية الكثير من الآراء ووجهات النظر المتباينة عن ضرورة وجود مثل هذا القانون، ففي حين رأت وجوه بارزة وخصوصا المنتمية إلى تيارات المعارضة الوطنية بأن وجود مثل هذا القانون ضمن التشريعات الرئيسية المعمول بها في البلاد يسهم في صون مبدأ المواطنة ويحافظ بصورة رئيسية على الكيان المجتمعي وكيان الدولة، ويضمن استمرارية الوحدة والتآلف وتعمل على توثيق العرى بينهما، وأنه من دون مثل هذا القانون الرادع ستتوافر فجوة سوداء كبرى تتيح للمثيرات الطائفية والإثنية أن تتواصل وتستشري لتفتت المجتمع الواحد، وتساهم بالتالي في إثخان إرادته السياسية الوطنية وتساهم في الحيلولة دون ولادة مجتمع مدني حقيقي يرسم معالم تغيير تقدمي حقيقي.
ولكن وعلى رغم موجة الاختناق السياسي والاجتماعي الطائفي اللاهبة في بلدنا يوجد هناك وفي الضفة الأخرى بعض المحسوبين على قوى وتيارات الموالاة وجمعيات «الغونغو»، وحتى ممن تورط في إحدى الفضائح المثيرة للجدل، الذين يرون بأن الحاجة إلى مثل هذا القانون معدومة أساسا من انعدام وجود مثل هذا التمييز الطائفي والاثني في البلاد، كما أن ما يحدث في أوضاع المجتمع والبلاد والعباد من تنامي حس التحريض والإثارة الطائفية وشيوع الاتكالية الموقنة على آليات التأويل والقراءة الطائفية لمختلف الحوادث والمجريات المتعاقبة في البلاد ليست إلا أمورا طبيعية، بل هي ضرورية لابد منها كي تنطلق وتعبر عن ذاتها وتقوي الإحساس بالانتماء إلى جماعة، وتنفس عن ضغائنها وأحقادها التي يؤدي حبسها وقمعها إلى أمور لا تحمد عقباها.
وهو ما يعني أنه أصبح لدينا بفعل وابل تلك الإبداعات والمخيلات الجهنمية ثيمة تنظيرية فرويدية اتخذت هذه المرة من الكوابت والأحقاد الطائفية شعارا لها بدلا من الكوابت الجنسية، ولو كان صاحب هذه النظرية الفرويدية «سلفيا» أو «معمما»!
كما أن هناك في ضفة أقرب من الواقعيين الجدد من كلا الطائفتين الكريمتين يرون أن صدور قانون للوحدة الوطنية أمر غير مجدٍ طالما أن المجتمع أصبح متشربا بثقافة الفئة والطائفة والجماعة حد الثمالة والغيبوبة والسكرة التي ما بعدها سكرة، فبات جهازه العصبي ومركز صناعة أفكاره وإرادته التحويلية أسرى وسبايا لها، كما أن من شأن إقرار مثل هذا القانون أن يتم اعتقال المجتمع ومؤسسات الدولة، وهو ما قد يشكل في حد ذاته خطرا على الاستقرار الوطني!
ولو خيرت بأن أبدي رأيا صادقا في ما يتعلق بالحاجة إلى قانون لحماية الوحدة الوطنية والحفاظ عليها، ولو سئلت عن موقعي بين ضفاف الآراء المؤيدة لوجود هذا القانون الملحاح وضفاف الآراء المعارضة لهذا المشروع والمسفهة له، فإنني على وشك أن أختار ذلك الفراغ الفاصل والممتد بين جميع الضفاف أيا كان ملؤه!
فإن كان الوضع الحالي الحافل بالتصعيد والإثارة الطائفية بين كلا الجانبين الذي يقع فيه الحراكان المجتمعي والسياسي أسرى وضحايا لحرب غير معلنة، مثيرا لأشد القلق والتوتر والاستياء من قبل جميع الحريصين على استقرار الوطن ووحدته وانتفاء التمييز الطائفي والإثني بردع القانون وصرامته، فإنه وبقراءة واقعية تتلمس أسنة وانحناءات والتواءات واقعنا الراهن يبدو مثل هذا الاقتراح بوجود قانون لحماية الوحدة الوطنية بمثابة أبسط الإيمان وأيسر الطرق نحو تفعيل المبادئ وترسيم الشعارات المتعلقة بوحدة هذا الوطن واستقراره ووئامه الشعبي في قلب وقالب واحد يروم المصلحة العليا ويضعها فوق كل اعتبار طائفي واثني ومصلحي، لا أن ينتزع طوائف البلد الكريمة ويقبرها أسفل سافلين لصالح طائفة كبرى اسمها «الوحدة الوطنية» كما قد يتوجس من ذلك بعض نشامى وغيارى الطائفية.
ولكن في الوقت ذاته لا يمكن للاخوة الأفاضل المطالبين بوجود هذا القانون أن يفرطوا في التفاؤل إذا ما استجيب لهم مع التماعة بارقة لشهاب في السماء، فيغضوا أنظارهم الواعية عن أسوأ الاحتمالات التي قد يكون فيها مصير هذا القانون إن شاء له أن يولد هنا في البحرين كمصير قوانين أخرى لم تفلح في أن تفرض احترامها الرادع على الجميع، أو لم تفرضه على أحد بالمرة وظلت دون تفعيل ومجرد ديكور تشريعي لا أكثر ولا أقل سواء ارتبطت بمساواة أو حرية أو سيادة واستقلال، فيتوه هذا القانون إذا ما شاء له أن يولد في صحراء العقم الفاصلة بين براري التشريع ومدائن التنفيذ، ويصبح بالتالي أشبه ما يكون بذر للرماد في العيون، وخير ذخيرة ومتاع إعلامي تسويقي يستغل في حملات «الماركتنغ» المدفوعة الأجر والأجل للمساندة على دعاوى «التمييز الطائفي والإثني» مهما كان واقعها، ويستمر رغما عن أنف هذا القانون التمييز الطائفي والتشطير العمودي للمجتمع بخيوط المتنفذين، ويتم الاحتفاء بالكتاب الطائفيين على أعلى المستويات وتزكيتهم على الجميع كمشاعل للتنوير والرقي، وإعطاء الأبواق الصحافية المنتنة الضوء الأخضر للتشكيك في النوايا وافتعال القضايا الخلاقة والأزمات المبدعة لولا أنها غير أصيلة بالمرة.
ولربما استثمر وجود مثل هذا القانون بعض أشباه السياسيين وخير من يبتلع الأطعام على الدوام، وذلك في إثارة المزيد من الفوضى والإرباك والتشويش ومزيد من التصعيد عبر محاولات مضنية ومتبادلة لاستغلال مظلة القانون تلك في حصد مكاسب سياسية طائفية آنية لجانب على حساب الجانب الآخر فيكون وبالا على الجميع ويزيد الطين الطائفي بلة وبريقا شرعيا هذه المرة لم يكن ليناله في أسوأ الأيام.
ما نحن بحاجة إليه ربما يكون خطة للإنقاذ أو مخطط للخلاص والنفاذ الوطني ومبادرة عليا للعدالة والإنصاف لا مجرد قشرة تشريعية قد تطرأ ولادتها!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1840 - الأربعاء 19 سبتمبر 2007م الموافق 07 رمضان 1428هـ