عنوان فيلم «Lonley Hearts» الذي يعرض حاليا في سينما السيف يخدع المشاهد. فالعنوان يشير إلى قصة حب أو علاقات فاشلة بين زوجين أو انغلاق حال عاطفية على وضع مأسوي. العنوان فعلا يخدع حتى إذا ترجم إلى العربية. فالترجمة قد تكون «قلوب وحيدة» أو «مستوحشة» أو «منعزلة». والمفردات الثلاث كلها تذهب بالاتجاه نفسه: قصة حب فاشلة.
قصة الفيلم غير ذلك. إنها مركبة من تضاعيف مختلفة منها له صلة بالعنوان، ومنها له اتصال بالجريمة، ومنها يدل على حوادث واقعية حصلت يوما في أميركا.
المخرج انطلق من عناصر توثيقية درامية وحدد حوادث القصة زمنيا بين نهاية الحرب العالمية الثانية ومطلع خمسينات القرن الماضي وتحديدا بين 1947 - 1952 وهي فترة تعتبر قاسية في حياة شعوب دخلت أتون الحرب وخرجت منه. وبما أنّ الحرب في كلّ المقاييس تعتبر خسارة حتى لو خرجت الدولة منها منتصرة سياسيا. فالانتصار لا يلغي الكوارث والمصائب التي وقعت. والناس عادة لا يشعرون بالمآسي التي لحقت بالعائلات والأسر والقرى والبلدات والمدن إلا إذا نالت نصيبها مباشرة من المصائب. والناس عادة تتعاطف مع الأسر والعائلات وأهل الضحايا لفترة وجيزة ولكن الحياة تتكفل بمحاصرة الحزن وعزله في أطره الضيّقة.
سيناريو الفيلم تناول أجزاء من تلك الصور المنسية. لذلك اختار عيّنة من المجتمع وهي أرامل (زوجات) ضحايا الحرب. فهذه الشريحة من النساء تهمل إنسانيا وعاطفيا وتصبح عرضة للنصب والاحتيال بسبب شعورهنّ بالوحدة والعزلة والتوحش. الزوجات أو الشقيقات أو الأمهات اللواتي فقدن أعز الناس حين توجه الزوج أو الأخ أو الابن إلى ساحة المعركة ولم يعد.
هذه العيّنة من البشر التي قامت بالواجب وفقدت أغلى ما تملك تصبح ضحية الإهمال وتأخذ بالبحث عن تعويض مهما يكن الثمن. ومثل هذه الشريحة التعيسة تتحوّل إلى ضحية ؛لأنها سهلة المنال ويمكن الإيقاع بها نظرا لحاجتها إلى عاطفة وحنان تشبع لديها تلك الرغبة الدفينة.
الفيلم اتخذ من هذه العينة مادة للمعالجة ولكن بأسلوب بوليسي وفي إطار سلبي تتحكم به نزعة الانتقام والقتل. وهذا ما جعل السيناريو يتحرّك بين فترتين: الأولى نهايات الحرب العالمية الثانية وبدء اكتشاف أهل الضحايا خطورة أو صعوبة تعويض الكلفة. والثانية إلقاء القبض على المجرم/ المجرمة وتنفيذ حكم الإعدام بهذا الثنائي الذي استغل قلوب أرامل (زوجات) تحتاج إلى عطف وحنان ورعاية.
تبدأ القصة بالتركيز على محتال شاب ووسيم تخصص بالاتصال بهذه العيّنة من الزوجات (الوحيدات) بأساليب مختلفة وعبر الهاتف أو الرسالة. المحتال يعرف ماذا يريد ويغتنم الفرص ويأخذ بمواعدة واحدة بعد أخرى يكرر الكلام نفسه والجمل الفارغة ذاتها بهدف الإيقاع بنساء تكبره بعشرين أو ثلاثين سنة. هدف المحتال واضح فهو يريد قنص مال الوحيدات وتلك التعويضات التي دفعتها الدولة وتمضية بعض الوقت للتسلية ثم الانتقال إلى أخرى.
هذا المحتال ليس شريرا ولا قاتلا وإنما احترف مهنة الخداع وتخصص في الإيقاع بتلك الشريحة من النساء المتقدّمات في السن ويشعرنَ بالعزلة ويبحثنَ عن منفذ للترويح عن نفس مجروحة ومظلومة ومهملة. العيّنة ليست موحّدة في كل شيء. فهناك شابات في الثلاثينات، وهناك شابات تبحث عن زوج حقيقي يعوّض الابن فقدان الأب، وهناك عانسات أو زوجات كبرن في العمر ويردنَ قضاء وقت يعوّض ذاك الزمن الضائع.
المحتال اكتسب خبرة في التعامل مع كلّ أصناف تلك العيّنة لأجل هدف واحد وهو سرقة المال بطريقة قانونية. وحتى تكون السرقة قانونية لابدّ من إقناع الطريدة (الضحية) بحبه وإعجابه وشوقه وقضاء وقت ممتع.
المال والمتعة تحت سقف القانون شجّع المحتال على تطوير وسائله التي لاقت في معظم الحالات النجاح تلو النجاح إلى أن سقط في براثن امرأة أذكى منه وأدهى وأقوى وتملك عدّة السحر والخداع والاستعداد للقتل.
هذه المرأة (سلمى حايك) استدرجته للمواعدة وذهبت إلى المكان. وهو جاء على عادته يكرر تلك الكلمات المخادعة ظنا منه أنها أرملة وحيدة تعيش عزلة وتوحش وتملك المال وتطلب المتعة. المحتال أخطأ في العنوان هذه المرة. فهي محتالة مثله وتحترف مهنة الإيقاع بالرجال بهدف اقتناص المال. وبما أنّ الشر صديق الشر يحصل التحالف بينهما.
تحالف الشر مع الشر يشكل نقطة مركزية في سيناريو الفيلم. فالشرير الوحيد يمكن أنْ يستمر احتياله لفترة طويلة تحت سقف القانون. ولكن المشكلة تتضخم وتتفاعل إذا التقى الشرير امرأة من جنسه. فهنا الشر يتطوّر من الاحتيال على القانون إلى قتل الناس وتجاوز المحرّمات من دون واعز أو حياء.
المخرج طبعا لا يريد تبرير الشر «الجميل» أو «المخادع» أو «المحتال» أو «الظريف». ولكنه يريد تمرير فكرة وهي أنّ الشر يمكن التعامل معه إذا كان محاصرا أو منعزلا ولكنه يتحوّل إلى خطر يعرّض الأبرياء إلى القتل المبرمج في حال خرج عن إطاره والتقى الآخر من الصنف نفسه. وهذا بالضبط ما حصل لتحالف الشرين. فهو وجد فيها فرصته ؛لأنها تستطيع أنْ تساعده في توسيع دائرة نشاطه بصفتها امرأة. وهي وجدت فيه فرصتها ؛لأنه يساعدها في تأمين المال والعيش برفاهية. وحتى يصل كلّ طرف إلى غايته قرر الإدعاء أنّ هذه السيدة شقيقته وهي وافقت على لعب دور الأخت البريئة حتى تستطيع أنْ تفتح له الأبواب للاتصال بأرامل يبحثنَ عن زوج يعوّض الطفل أو المرأة تلك الحاجة إلى العطف والحنان.
نقطة وحيدة فاتت تحالف الشر وهي «الغيرة» أو «الطمع» أو العجز عن إشباع «اللذة» وضعف السيطرة على نزعة عدم الاكتفاء بالحد الأدنى. الشرير شرير ولذلك حين تسيطر عليه رغبة الاستئثار يصبح في مكان لا يستطيع التحكّم به. فالشر أقوى وهو في الموقع الذي يدير اللعبة وفق اتجاه يلبي نزعة الغرور واحتقار الآخر الساذج أو الضعيف أو المسكين.
الشرعندما يتحالف مع الشر تنقلب المعادلة ويدخل الثنائي في سياق العنف والجريمة والقتل ومطاردة الضحايا بأسلوب سخيف وبشع. في تلك الفترة الواقعة بين 1947 و1952 تسجّل دوائر الشرطة الأميركية سلسلة جرائم ضد نساء وحيدات (أرامل) تعرضن لسرقة أموال التعويضات أو تلك المساعدات التي تأتي من صندوق الجيش أو دوائر الدولة.
رئيس الشرطة القضائية (جون ترافولتا) يعاني بدوره من أزمة عائلية ومأساة انعكست سلبا على علاقته مع ابنه الوحيد. مصيبة رئيس دائرة التحقيقات تختلف في أسبابها وعناصرها ولكنها تصب في النهاية في الحلقة ذاتها: الشعور بالوحدة.
زوجة الشرطي أقدمت على الانتحار في لحظة جنونية. والشرطي لم يدرك الدافع من وراء هذا الفعل. والنتيجة كانت توليد حال من عقدة الذنب. فهل انتحرت بسبب شعورها بالعزلة والوحشة؟ وهل هو السبب ؛لأنه أهمل أسرته نتيجة انشغاله الدائم بوظيفته؟
مأساة الشرطي تحوّلت إلى قوة ذاتية شجّعته على ملاحقة الثنائي الشرير. فهو يريد الانتقام والثأر لزوجته التي لجأت إلى الانتحار تاركة إياه وحده يتحمل مسئولية تربية ابنه الوحيد. الابن يحمله المسئولية ويرى أنّ أمّه أقدمت على قتل نفسها ؛لأنها أحست بثقل «الوحدة» و»العزلة» ولم تعد تقوى على مقاومة الرغبة في الموت.
عنوان الفيلم يخدع. فهو لا يتحدث عن الحنان والحب والرغبة في الحياة وإنما يتحدث عن قلوب أقفلت في وجهها احتمالات التعايش مع طرف غاب عنها قسرا (الحرب) أو إهمالا (الانجراف في العمل). وإذا كانت نتائج «الوحدة» متشابهة إلا أنّ دوافعها مختلفة. وبسبب ذاك الاختلاف نجح الشرطي في سعيه نحو المطاردة فألقي القبض على الثنائي الشرير وبذل جهده لإصدار حكم الإعدام في ولاية نيويورك التي تجيز محاكمها تنفيذ عقوبات قصوى مستخدمة الكرسي الكهربائي.
تحالف الشر قضي عليه بالصعق الكهربائي بينما الشرطي الشريف نجح في تجاوز محنته والتفرغ إلى ابنه الذي انتظر والده كثيرا لتعويض حنان غاب عنه بعد فراق الأم.
العدد 1840 - الأربعاء 19 سبتمبر 2007م الموافق 07 رمضان 1428هـ