الكاميرا تقترب من رجل يجلس على كرسي وثير، ولا ينطق بكلمة، وقد يحدث أن يصرخ ويصيح انه اضحى كما يقال مجنونا لم يعد يهذي ولا يرقص ولا يرتجل على آلة البيانو، جامد لا يتحرك، شبيه بجماد.
كتبت عنه (لودوسالومي) التي احبها من طرف واحد سيرته الداخلية بلغة انشادية قائلة انه هادئ، متوسط القامة، متواضع وانيق، يمشي الهوينى، كتفاه مائلتان دائما ويتحدث بصوت خفيض يكاد يمر من امام ناظريك من دون ان يلفت انتباهك، ومن صفاته هناك ثلاث صفات بارزة عن غيرها وهي ضحكه الوديع، يداه الرائعتان وفم معبر مدفون تحت شارب كث.
هناك عيناه فقد كان كفيف البصر إلى حد الذي جعله يقول عن نفسه، إنه نصف أعمى، إلا أن نظرات عينه لا تتراقصان أبدا وعندما تلم به صفاءات ذهنية خاطفة يتردى في عزلة مخيفة وعيناه تبدوان كما لو كانتا بوابا يحرس كنوزا مخفية.
وعندما تقترب الكاميرا لتعطينا صورة (بك كلوزاب) لوجهه. ونتبين ملامحه تظهر صورة الفيلسوف المشاكس، والصعب المراس (نيتشه) الذي يصعب الامساك بعناصر فلسفته الغنية، الذي عرف بنقده القاسي اللاموقعي للعقل الاوروبي منذرا بنهايته القريبة ومبشرا بانبثاق فجر العدمية، الذي علن العداء على الهيغلية.
ظهرت الفلسفة العدمية معه لنهاية العقائد والفلسفات أي موت الإله من أجل الإنسان الأول وإلى الحياة بما هي مجرد إرادة القوة بل أن موت الإله سيكون من أجل الإنسان الإله نفسه، اكتشاف الإله في الإنسان في فلسفة (فيورباخ) لتكون بعد ذلك الدعوة إلى الاشتباه وقلب القيم للدخول بالفكر إلى فضاء الاشتباه والاهمال ولتفتح الطريق على فلسفة العدم في بعدها الإنساني في وجودية (هيدجر) حيث الموت هدف الوجود الإنساني وحيث الوجود هو العدم في نظر (سارتر). وحيث الوجود الإنساني عند (كامو) وجود تناقض ولا معقولية ولا غائية لينتهي الوعي إلى العبث واللاعقل والغثيان، وتتأزم وضعية الوعي الأوروبي مع تفكيكية (دريدا) حيث تغيب فرص المعرفة الممكنة ويصبح الخطاب خاليا من المعنى... فالكتابة تبدأ من نقطة الصفر عند (بارت)، لا غاية ولا هدف. إنها أشبه ما تكون إفرازا بيولوجيا صرفا، فالوعي الأوروبي يتحرك في نقلاته من مرحلة العقلانية إلى البنى والمتحول، (فهيغل) يعلن أن المتغير هو المطلق (وكير كيجارد) سيعطي الاولوية للصيرورة على الوجود، ودارون في الطبيعة سيتحدث عن النشوء والارتقاء وتبدأ هيمنة فكر الجدل والنشوء والصيرورة على الوعي الأوروبي، لكن العقل او الوعي الاوروبي في حركته المستمرة يقفز إلى نهايته، إلى العدمية عند (نيتشه) سيكون عصر العدمية قادما.
يبدأ العقل الاوروبي أو الوعي الأوروبي من العقلانية إلى العدم، العقل بدايته، والعدم نهايته كما طرح ذلك إدريس هاني. و تبدأ ماهية ما بعد الحداثة او الدخول فيها من النصوص التي ظلت تواجه النسيان والتهميش والاقصاء من قبل الفكر الأوروبي. وظل الفيلسوف نيتشه مهمشا بسبب ما كان يكنه من عداء للعقلانية فقد كان من أكبر المبشرين بالعدمية في العصر الحديث، وأكبر ناقد للانساق المغلقه التي أحاطت بها العقلانية نفسها وقد انصب نقده على الاسس التي يقوم عليها نظام المعرفة الاوروبي، وهياكلها السياسية والروحية والايديولوجية مجترحا نمطا في التفكير والمعالجة خارج النسق التداولي الغربي، واعتمد اسلوب الشعر والتفكير اللانسقي ومفارقات اللاعقل في نقد الفكر الأوروبي كاشفا عن تناقضاته ومكره وفشله.
ها هو الفيلسوف الانقلابي نيتشه يحمل معوله لينهال ضربا وتهشيما لكل القيم والأفكار والأخلاق السابقة عليه وهو مدرك لأهمية قلبه لكل القيم كما قال لكشفه اصنام نهايات القرن التاسع عشر التي تسميها الناس حقائق.
يبدأ نيتشه فإنه بتحطيم الاصنام وهذا ما نتبينه في كتابه (افول الاصنام). يقوم بضربات قاسية وقوية وقاطعة في عنفها على الفكر والثقافة والمثقفين والفلاسفة فهو يوجه ضربات معوله على رؤوس واجساد كثيرة لم تكن معاصرة فحسب بل قديمة وتاريخية وأقدمها كان الفيلسوف اليوناني (سقراط المعلم الاول) أبو الفلسفة في التاريخ حيث انهال عليه بضربات موجعة على عقله ومنطقه المسمى المنطق الارسطى، فالمعادلة الارسطية المضحكة بل الفاسدة حسب (نيتشه) وهي التالية عقل، فضيلة، سعادة، فأية حماقة هذه يرتكبها هؤلاء الذين يعتبرهم نيتشه بعبارته أمثلة للانحطاط يقول: «لقد عرفت كيف اكشف لدى سقراط وأفلاطون أعراض فساد الاصل دلائل تدهور الهلينية الاغريقيين المزيفين المضادين للإغريق. فسقراط الذي كان ينتمي بالولادة إلى اكثر الدهماء دونية ومن سماته قبح الهيئة ولوثة في سمعه وكل شيء فيه مضخم كاريكاتوري (كالضفدع) انتقم من جميع غرائز الإغريق القدامى بمعادلته تلك، فالجدل لديه ليس سوى شكل من أشكال الانتقام، فهو ليس أكثر من مصارع بعضلات المنطق. لقد جعل سقراط من العقل مستبدا، فهو اذا منطقي حتى حدود العبث وهذه على وجه التحديد نقطة ضعفه. فالكمال الاخلاقي الذي توخاه سقراط وتوخته المسيحية والفلسفات الاخلاقية من بعده ليست سوى مرض في نظر نيتشه. لكن، لماذا هذه المقاومة الشرسة للغريزة؟ إن التصدي للغريزة البشرية بالمطلق هو تصد للحياة عينها.
يهاجم نيتشة دعوات القيم الغربية معتبرا إياها فلسفات لجمود عقلي، وتحنيطا وتصنيما ضد الصيرورة. ففلسفات القيم وعلى رأسها المسيحية الغربية فلسفات ثبات، حتى لكأن الكائن لا يصير وكأنه مطروح ضد حواسه وظواهره التي هي فعلا حقيقته وليس وراء الظواهر أو القيم والأدهى هو جعل اللغة خادمة لهذا العقل القيمي الفلسفي أو الميتافيزيقي حتى أصبح العقل في اللغة بمثابة عجوز كريهة مضللة، لابد أيضا مع تفتيت القيم من تفتيت اللغة ذاتها».
وتتلخص فلسفة نيتشه بأطروحاتها الفلسفية ضد الفلسفات القديمة التي يعتبرها كأصنام بديلة في أربع اسس:
1 - لا حقيقة للكائن او العالم خارج الظواهر.
2 - ما يسند الوجود الحق الكائن او الكامن خارج الظواهر هو اسناد العدم.
3 - لا معنى لعالم آخر خارج عالم الحياة الظاهرة.
4 - ليست هناك ثنائية على الطريقة الكانطية أو المسيحية بين ظاهر مزيف وحقيقي باطن قيمي خلقي. فتاريخ الفلسفة تاريخ خطأ لانه استبدال للعالم الراهن الوحيد بوهم عالم آخر مستتر متعال، ولطالما خدمت اللغة هذا الوهم.
يدافع نيتشه عن النزوات والغرائز مهاجما الدعوات الاخلاقية التي يعتبرها وحشية وشريرة، لذلك لا بد من استئصالها أو اخصائها. وهنا يكتب جملته المعبرة قائلا: «إن مهاجمة النزوات من الجذر تعني مهاجمة الحياة من الجذر، اننا لا نستحسن أبدا أطباء الاسنان الذين يقلعون الاسنان كي تكف عن الايلام فالغرائز ضرورة حياتية وإخصاؤها لا يتيح الدخول في مملكة الرب كما ترى الكنيسة فلابد من الاندراج في الغريزة، والتغلب عليها بقوة الإرادة البشرية لا بالغائها، فالغاؤها طبيعة مضادة للأخلاق. ان الانسان المدجن الذي يصلحه القس شبيه بالحيوان المدجن، كذلك الأمر بالنسبة للأخلاق التي بشر بها (مانو) في الهند انها أخلاق اللعنة ضد المنبوذين أو الاخلاقية الآرية أخلاقية الألمان فهي أكثر الاخلاقيات مدعاة للانتقاد».
ينقض نيتشه بشراسة على العقل الألماني معتبرا الألمان ادمنوا ثلاثة مخدرات:
(العقل، استعمال الكحول، والمسيحية) مضيفا مخدرا رابعا وهو (الموسيقى الألمانية الثقيلة) ويسخر قائلا: «كم نجد في الذكاء الألماني من روائح الجعة».
تجاوز الميتافيزيقا -
نقد القيمة (من الداخل)
لا يمكن الولوج إلى عالم العدمية المكتملة إلاّ بالوقوف ولو بشكل مقتضب لدى المتشائم الكبير (شوبينهاور) فالفلسفة الالمانية الحديثة تبدأرحلتها الحقيقية مع (لايننتز) و(فولف)، وهي بداية ميتافيزيقية محضة، استطاعت فيما بعد ان ترسم استراتيجية التفكير الفلسفي الالماني على مدى القرن التاسع عشر من منطلق استراتيجية التفكير الميتافيزيقي ضمن الاطار المثالي، على رغم ان (كانط) قد وجه سهامه النقدية الى الميتافيزيقا حتى اعتقد في زمانه أن الحقل الفلسفي سيأفل الى مالا نهاية والى الابد، إلاّ أن العودة الى الميتافيزيقا بعد هذا النقد كانت من القوة بحيث اندفعت الى مسارات في بناء الانظمة الميتافيزيقية فاقت قوة نقد (كانط)، وظهر ذلك في المثالية الثلاثية الالمانية لدى كل من (فخته، شلنج، هيغل) فقد وضع الفلاسفة الثلاثة انظمة فلسفية كبيرة هي خلاصة الفكر الميتافيزيقي المثالي.
قدم هؤلاء الفلاسفة تصورات للمثالية - مثالية الأنا الذاتية - مثالية الأناء الموضوعية - مثالية الأنا المطلقة، هذه المثاليات وإن بدت منفصلة بعض الشيء إلاّ انها كانت تتنامى بشكل عضوي فـ (شلنج) كان في حوار دائم مع (فخته) وهيغل كان في حوار دائم مع (فخته وشلنج) وفلسفتهم هي عبارة عن سلسلة يكمل احدها الآخر في تواصل قل نظيره في تاريخ الفلسفة غير أن هذه الفلسفة الكبيرة بالنسبة الى تاريخ الفلسفة اللاحق عليها أشرف نور الميتافيزيقا من جديد، وراح الحوار بشأن انظمتها الثلاثة يأخذ شكلا جديدا في دائرة الفلسفة الالمانية في القرن التاسع عشر فما عادت الرغبة قائمة في بناء انظمة ميتافيزيقية كما كنا نرى لدى فلاسفة المثالية الكبار، انما العكس من ذلك، إذ راح عدد من الفلاسفة الالمان يتأملون الميتافيزيقا في مواقع فكرية جديدة، من هؤلاءالفلاسفة كان (ارثرشوبنهاور) الذي عاصر هيغل، والذي كان يعتقد بأن الحاجة إلى الميتافيزيقا تنشأ من تفكير الإنسان في الوجود ودهشته لنظامه الكوني الدقيق وأن هذه الدهشة هي خاصية الإنسان الذي هو حيوان ميتافيزيائي ويرى أن الدهشة هي أم الميتافيزيقا وشرطها الاساسي، ويحاول أن يقارن بين دهشة الفيلسوف ودهشة العالم، فلا يملك التفكير الفلسفي إلاّ من كان باستطاعته أن يدهش بازاء الحوادث الاعتيادية وبأزاء الاشياء اليومية وإلا من كان يضع موضع البحث والدراسة كل ماهو أكثر عمومية وأكثر ألفة بينما لا تتولد دهشة العالم إلاّ بازاء الظواهر النادرة والظواهر المتخيرة ولا تنحصر مهمته إلاّ في ارجاع كل ظاهرة مجهولة إلى ظاهرة معلومة وهذا يعنى أن (شوبنهاور) لا يضع الميتافيزيقا جانبا فهي حقيقة دائمة ترافق الوعي البشري وبذلك يسعى إلى تعريفاتها، بأنها كل ماله الطموح لأن يكون معرفة تتجاوز عالم الخبرة، إلى عالم الظواهر الحسية الواقعية، كل ما ينزع إلى تفسير ما تكون الطبيعة به مشروطة سواء كانت في هذا الاتجاه أو ذاك، وهو بتعبير آخر، كل ما يصبو إلى أن يكشف عما يكمن خلف الطبيعة، كما يقول شوبنهاور.
إن الإرادة عند شوبنهاور هي الشيء في ذاته، وهي الجوهر الخالد غير القابل للفناء، ومبدأ الحياة فيه وهي بازاء العقل مُثلٌ أولية، بينما العقل ثانوي وعرضي، ولذلك هي ميتافيزيقية وهو فيزيائي وعلى هذا الأساس راح شوبنهاور يحدد عددا من السمات الاخرى لمفهوم الارادة، فهي ليست في (جهة ما) من الجهات، لأن الجهة تفترض المكان والاخير ليس سوى مظهر من المظاهرة وليس كذلك عرضة للتطور لانها خارج إطار الزمان وإن كانت تتزامن وهي (وحدة) لأنه لا إمكان للكثرة، ولا في المكان عن طريق تجاوز العناصر، ولكن الزمان والمكان لا يتمتعان بالواقعية.
وهي كذلك، لا سبب لها - لأنه إذا كان لكل ظاهرة سبب فالسببية لا وجود لها في عالم الظواهر والمظاهر فقط. ولا هدف لها، لأن الهدف هو سبب غائي، ولا وجود للأسباب الغائية وللأسباب الفاعلة خارج عالم الظواهر. هي حرة دون ان تكون لها أية صفة من صفات الاختيار الحر.
شوبنهاور فيلسوف ثنائي في نظرتة إلى الوجود وإلى العالم، فالعالم يتألف ميتافيزيائيا من (الظاهر) ومن (الباطن)، وإذا نظرنا إليه من حيث هو ظاهر، كان (تمثلا). وإذا نظرنا إليه من حيث هو باطن (إرادة) والعالم بوصفه (تمثلا) هو العالم الذي تبدو لنا ظواهره موضوعات بالنسبة لذات مدركة، وعالم التمثل هو عالم الظواهر الذي تحدث عنه (كانط) وهو يسير على نظام ويحكمة قانون عام هو مبدأ العله الكافية وصوره العامة وهي الزمان والمكان والعلية.
هذه الصورة بمثابة الشروط الضرورية لكل تمثل حسى ممكن، وهي أولية وسابقة على كل خبرة، إلا أن العالم ليس مجرد تمثل، إنه شيء آخر، يمثل حقيقة الباطنية للعالم التي يجب أن تكون مختلفة تماما عن التمثل، وعن صور وقوانين التمثلات، وبالتالي لا يمكن الوصول إليها من خلال تلك القوانين التي تربط الموضوعات أو التمثلات فيما بينها.
هي صورة مبدأ العلة الكافية، فهذه القوانين لا تنطبق على العالم إلا من الخارج، الأمر الذي يحتم افتراض مبدأ جواني باطني هو مبدأ الارادة. والعالم من هذه الزاوية يمثل إرادة إلى جانب كونه تمثلا.
الواقع أننا لو تأملنا فلسفة شوبنهاور لوجدناها مبنية على فروض واسعة مدعومة بمعطيات وشواهد تجريبية، فشوبنهاور يفترض منذ البداية أن الكون تسوده قوة شهوانية عمياء يسميها الارادة. ويفترض ثانيا، أن الإرادة شر، ثم يحاول بعد ذلك أن يجد إثباتا تجريبيا على فروضه في المجال اللاعضوي، والمجال العضوي وخصوصا الحياة البشرية، ومن هنا فإن استدلالات شوبنهاور لم تكن منطقية بقدر ما كانت فروضا مدعمة ببعض الشواهد التجريبية، وبذلك، فإن تفكير شوبنهاور كان يتخذ أحيانا انتقادات فجائية حينما يربط بين الافكار ومع ذلك فإن الاتجاه قد قدم لنا نوعا متميزا من الميتافيزيقا التجريبية في مقابل (الميتافيزيقا التجريدية) التي كانت سائدة انذاك في تلك المذاهب التي تتعالى على العالم لتصوغه في قوالب
تقبل نيتشه جميع ضروب التبصر الجديدة التي أتت بها النزعة الشوبنهورية التشاؤمية، وزودها بنوع جديد من الشجاعة وحوّل ضروب نفيه إلى تأكيدات مرحة، واعترف بأن اللامعقول وآلام الخلق وعدم أخلاقية الحياة بالذات هي الشروط الوحيدة التي تتيح للانسانية أن تحقق قيما جديدة أعلى من جميع القيم التي استطاعت النزعة التفاؤلية العقلانية أن تتصورها حتى ذلك الوقت.
ويرى فيلسوف العود الأبدي في الميتافيزيقا الغربية نوعا من تغليب القيم الراسخة والحقيقة المضادة للحياة والخلق والحرية. وبالتالي، ينبغي قلب القيم، وهذا هو مشروع (نيتشه) الاكبر على أن استياءه من الميتافيزيقا الغربية، لا يأتي من عدم رضا عن الطريقة التي طرحت بها هذه الميتافيزيقا المسألة الانطولوجية، وانما استياؤه راجع إلى أنه لا ينظر إلى الميتافيزيقا من وجهه نظر انطولوجية انما أخلاقية فبحسب (نيتشه) أن الفلسفة منذ (بارميزس) كانت في مبدئها، وأساسها، انطولوجية ميتافيزيقية، وقد حاولت تثبيت الصفات الخاصة بالكينونة وطابقت بينها وبين المثال الأعلى أو الخير المطلق، وبسبب هذا التصور للوجود والكينونة، فإن الانطولوجيا توصف بالمثالية، ولما كان هذا التصور يهدف إلى تجاوز الواقع المحسوس الطبيعي والارتفاع إلى عالم آخر مثالي وكامل، فإن الانطولوجيا التقليدية تبدو ميتافيزيقية بامتياز، أي فوق طبيعية، الأمر الذي يحيل إلى التعالي في الوجود.
الوجود المتعالي هو الحقيقة المطلقة والثابتة والمتطابقة مع ذاتها، ومهمة نيتشه، كما حددها لنفسه تمثلت في تجاوز الميتافيزيقا، أو تجاوز الفلاسفة السابقين عن طريق التدمير لعالم الكينونة العليا، عالم المثل.
يريد نيتشه تدمير المثالية الميتافيزيقية، ويستخدم لذلك سلاحين: سلاح النقد التأويلي، وسلاح المنهجية التي تبحث في الجذور، فهو يعتقد بأن الفيلسوف الميتافيزيقي لا يفسر العالم وظواهره كما هي عليه، وانما يحجبها، ويغطيها بواسطة خيالاته وأوهامه، وهو يولد مفهوم الكينونة المتعالية أو الوجود العلوي بسبب حقده على الصيرورة أي التحول والحياة. وبرى، أنه لا توجد إلا هذه الحقيقة الواقعية المحسوسة، اي العالم الارضي، لكن الفيلسوف الميتافيزيقي يحاول الحط من شأنها، واحتقارها، بوصفها مجرد مظاهر سطحية تختفي وراءها الجواهر الحقيقية والأبدية.
العدد 1840 - الأربعاء 19 سبتمبر 2007م الموافق 07 رمضان 1428هـ