في وقت متأخر من الليل، قرأتُ قبل ليلتين في شريط إحدى القنوات الدينية خبر رحيل المحقق التاريخي السيد مرتضى العسكري، عن 94 عاما، إثر إصابته بمرض كلوي.
السّيد العسكري الذي دَرَسَ على يد كبار أساتذة الحوزة العلمية، مثل: السيد المرعشي النجفي والسيد الخميني، وكانَ من الشخصيات التي نادَتْ بإصلاح الحوزة؛ لتستوعب متطلبات التطوّر الاجتماعي والنهوض بمسئولياتها في الأمّة.
هذا العمر المديد يجعل من هذه الشخصية العملية البارزة شاهدا على العصر. فقد بدأ تحصيله العلمي مبكّرا واتجّه نحو دراسة السيرة والتاريخ وحتى الرّحلات، وهو أمرٌ لم يكن منتشرا في الوسط الديني، فتجاوز اهتمامات أقرانه حتى استطاع الإتيان بالجديد المبدع.
ولعلّ أهم فتح أتى به العسكري، كتابه المهم «عبدالله بن سبأ... وأساطير أخرى»، إذ قاده قراءته المعمّقة للتاريخ الإسلامي في مصادره الأولى، إلى نسف قصة «عبدالله بن سبأ» من الجذور، إذ لا يعقل أنْ ينسب لشخص يهودي مجهول من صنعاء، أنْ يقوم بكلّ هذا الدور التخريبي الكبير للتاريخ الإسلامي، وإلقاء العداوة بين كبار شخصيات الصحابة (رض) في المدينة، بحيث يحرّكهم إلى محرقة الفتنة كالدمى. وهي من الأمور التي سكت عنها التاريخ الإسلامي الذي دوّنت أغلب فصوله في ظلال قصور الحاكمينَ.
العسكري تتبّع القصة في جذورها، وتوقّف عند أوّل مَنْ اختلقها، وأوّل مَنْ نشرها، وكيف تحوّلت مع الوقت إلى شخصية أسطورية لدى المؤرّخ القديم، لا تقبل النقد أو طرح التساؤلات. ولاحقا تم استخدامها في الحروب الكلامية ضد أحد أقدم المذاهب الإسلامية، الذي أرجعه البعض أصوله إلى «حركة ابن سبأ»، وأرجعه بعضهم إلى الفرس، مع ما في ذلك من تجنٍ على الحقيقة التاريخية، وإهانة للتاريخ الإسلامي وشخصياته.
نتائج هذا الكشف، بقيت لسنوات حبيسة الأدراج في النجف الأشرف، خشية ما قد يُثيره النشر من اضطراب وبلبلة، فنحن أمة غير مستعدّة حتّى لإعادة قراءة تاريخها. لكن من المصادفات التاريخية أن هناك باحثا آخر مهتما بقضايا التاريخ الإسلامي في مصر، اسمه طه حسين، توصّل إلى النتائج ذاتها، في تلك الفترة (قبل خمسين عاما)، ونشرها في كتابه الشهير «الفتنة الكبرى». الوضع المستجد شجّع العسكري على إخراج أوراقه ودفعها إلى المطبعة؛ لتصبح كتابا تتداوله الأيادي التي تثمّن الكنوز التاريخية.
البحّاثة المحقّق، له كتاب آخر لا يقل أثرا وخطرا، حين توصّل بالدلائل العلمية إلى اكتشاف حقيقة أحاديث الرّاوي سيف بن عُمر، وغيره التي خرج من بطنها عبد الله بن سبأ «خمسون ومائة صحابي مختلق»، ما سبب هزّة لما كان يعتبر «حقائق» و«مسلّمات» متوارثة عبر قرون، وألقى ذلك بظلاله على النظرة إلى كتابات كبار المؤرّخين كالطبري وغيره.
العسكري تعمّق في دراسة تاريخ الاستعمار، وحدّد مخاطر الغزو الفكري الذي يجتاح العالم الإسلامي، ونبّه مبكّرا إلى خطورة المناهج التعليمية التي وضعها المستشارون الأجانب، مقارنا بين المناهج التي يدرسونها في بلادهم وبلادنا، حتى سمّى مدارسنا بـ «معامل تحضير الموظفين». وهي إشكاليةٌ لا تزال تعيشها غالبية العالم الإسلامي حتى اليوم، وأي قطر إسلامي يحاول الإفلات من طوق التبعية تحتشد عليه قوى الاستعمار الجديد (أميركا) وتشايعها على ذلك بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبقيّة الليبراليات المتوحّشة، لإجهاض تجربته والقضاء على تطلعات التقدم والاستقلال والنهوض.
رَحَلَ العسكري وتركَ ميراثا من الكتب القيّمة، فكتب عن «معالم المدرستين»، وعن الاستشراق وسيرة الخلفاء والآداب الإسلامية والأحكام السلطانية... ولو لم يكن غير تحفة «ابن سبأ» لكفى. رضي الله عنه وأرضاه.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1839 - الثلثاء 18 سبتمبر 2007م الموافق 06 رمضان 1428هـ