العدد 1838 - الإثنين 17 سبتمبر 2007م الموافق 05 رمضان 1428هـ

الرئاسة اللبنانية: الطائفة أوّلا أم الدولة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قبل أسبوع من اقتراب موعد جلسة انتخاب رئيس للجمهورية بدأت تظهر على الشاشة السياسية اللبنانية شعارات طائفية ومذهبية تزيد من توتير الأجواء التي تعصف ببلاد الأرز منذ سنوات. فالشعارات انتخابية ولكنها تعكس في جوهرها نزعة مضادة للدولة و»الفكرة اللبنانية». وفي حال استمرار الضخ في هذا السياق سيتعرض البلد لمزيد من الاهتزاز وسينكشف دوليا وإقليميا بذريعة أنّ لبنان فكرة مثالية لا أساس واقعيا يقوم عليه وبالتالي لابدّ من إعادة النظر في خريطته السكانية.

هناك فريق سياسي يركز الآنَ وبمناسبة اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي على شعارين طائفيين ومذهبيين: الأوّل رفض «تهميش المسيحيين». والثاني رفض «توطين الفلسطينيين». الشعاران مفتعلان ووظيفتهما السياسية التحريض على الفتنة الأهلية وتعطيل مشروع الدولة (الضعيفة والمشلولة أصلا) وإحباط فكرة «لبنان» بصفتها ذاك الوعاء الإيديولوجي الذي يعيد خلط الطوائف والمذاهب في دائرة كيانية تتمتع بالسيادة والاستقلال.

فكرة «تهميش المسيحيين» تنطلق أساسا من نزعة طائفية ضيّقة الأفق وتطرح مجموعة التباسات بين مفهوم الدولة ومصالح الطائفة وتضع مختلف اللبنانيين من المذاهب الأخرى في دائرة الاتهام بالتسلّط والاستئثار وقهر المجموعات اللبنانية الأخرى. الفكرة سيئة النوايا؛ لأنها تخدم زعامة طائفية في الشارع المسيحي وتعطل نمو الفكرة اللبنانية التي تعاني من التمزق السياسي.

وهذا الخلط بين «اللبنانية» و«المسيحية» لا وظيفة له سوى تعطيل مشروع الدولة وإعطاء مبررات للقوى الدولية والإقليمية بإعادة النظر في حدود الكيان السياسي، وربما الذهاب بعيدا باتجاه توزيعه إلى كانتونات (نظام حمايات وحكومات ذاتية) على غرار ما فعل الاحتلال الأميركي في العراق.

فكرة «تهميش المسيحيين» ليست الوحيدة التي تطرح في سوق المزايدات الانتخابية. فهناك فكرة سلبية أكثر خطورة وهي «توطين الفلسطينيين» واتهام الفريق اللبناني الآخر (المسلم) بأنه يعمل على تسهيل أمورها وتنفيذها ميدانيا وقانونيا. هذه الفكرة دأب الرئيس أميل لحود على ترويجها والتخويف منها لتبرير وجوده في الرئاسة الأولى. فهذا الرئيس الذي اقتربت مدّته على الانتهاء حاول مرارا الدفاع عن موقعه من خلال إثارة نعرات طائفية ومذهبية تتصف بنزعة العداء العنصري للشعب الفلسطيني المقيم قسرا في لبنان.

يبدو أنّ «أفكار» هذا الرئيس التي تخالف الدستور والأعراف بدأت تلقى ذاك الهوى الطائفي والمذهبي في شارع يبحث عن هوية سياسة تضمن له البقاء والاستمرار في محيط جغرافي مضطرب تتنازعه الاستقطابات الدولية والتجاذبات الإقليمية. وخطورة هذه «الأفكار» التي تفتعل التشنجات وتدّعي الدفاع عن الدولة باسم الطائفة وحقوقها والمذهب ومصالحه أنه سيكون لها تأثيراتها السلبية على صيغة كيان تقوم على معادلة دقيقة وحسّاسة.

الفكر الطائفي الذي تعتمده تيارات سياسية متنوعة الألوان يشكّل نقطة ضعف تقليدية تمنع «الفكرة اللبنانية» من النمو والانتشار وتعرقل «الدولة» من تشكيل هوية مشتركة تتجاوز تلك الالتباسات بين «الطائفة» و« لبنان». فالخلط بين المسيحية واللبنانية وتجيير الأفكار الطائفية لحساب مشروع زعامة شارعية وافتعال معارك جانبية تحت أغطية دستورية وعلمانية تعتبر في النهاية أدوات هدم للكيان في صيغته الحالية وتعطي المبررات الكافية لإعادة النظر في جغرافيته وتوازناته الأهلية. فالخلط يكسب الزعامة الشارعية نسبة من القوة والشعبية الطائفية والمذهبية ولكنه يثير الفزع والقرف والاشمئزاز لدى الطوائف الأخرى ويدفعها بالقوة على الخروج من دائرة الهوية اللبنانية المشتركة ويقدّم لها الذرائع للسير في مشروعات أخرى تتجاوز «فكرة» لا تزال في طور التأسيس.

تهميش وتوطين

رفض «توطين الفلسطينيين» فكرة لبنانية وليست طائفية أو مذهبية. وهي أساسا فكرة فلسطينية. فاللبناني يرفض التوطين لأسباب مختلفة بعيدة وقريبة ولكنها في النهاية تلتقي على الحد الأدنى المشترك. والفلسطيني يرفض التوطين لأسباب كثيرة منها تلك العناصر الوطنية التي تتصل مباشرة بحقوقه وهويته.

هناك شبه اتفاق بين «اللبناني» و»الفلسطيني» على رفض التوطين. ولكن المشكلة أنّ هناك اتجاهات طائفية ومذهبية دأبت على إثارة الموضوع بأسلوب مفتعل واستفزازي واتهامي وكأنّ هناك خطة موضوعة على النار ولابدّ من مقاومتها حتى لا تصبح حقيقة واقعية أو نهائية.

هذه النزعة الطائفية والمذهبية التي تعتمد أساليب التخويف وإثارة النعرات وافتعال مشكلات والترويج لأفكار مختلقة، أخذت تطلق إشارات بهذا الاتجاه بعد الانتهاء من معارك مخيم «نهر البارد» العسكرية. فهذا التيار الملفق أخذ يثير تشنجات سياسية تعترض على إعادة إعمار «المخيّم» بذريعة أنّ ذلك يساعد على توطين الفلسطينيين. ولكن التيار الطائفي المذكور لم يحدد البدائل العملية؟ فهل يبقى 45 ألفا في العراء؟ وهل يريد طرد هؤلاء وتوزيعهم أو دفعهم نحو التطرّف والعداء والكراهية؟

المشكلة مع هذا التيار التلفيقي بين الدولة والطائفة أنه لم يلتقط تلك الإشارات الشريفة والنبيلة التي صدرت عن الفلسطينيين خلال محنة مخيّم «نهر البارد». فالموقف الفلسطيني ساعد الدولة ودعمها وأعطاها ذاك الزخم السياسي العربي الذي عطل على قوى إقليمية اللعب على المشاعر القومية وتطويعها في اتجاهات تلغيم لبنان وتفجيره داخليا. ولولا هذه «المحطة اللبنانية» التي ظهرت في الوعي السياسي الفلسطيني لكانت معارك «نهر البارد» جرت في اتجاهات أخرى وربما كانت جرفت معها «مخيمات» أخرى في سياق أزمة مفتوحة طائفيا ومذهبيا ومتدحرجة محليا وإقليميا. وعدم التقاط هذا التيار تلك اللحظة اللبنانية في الموقف الفلسطيني تمنع الدولة من تأسيس مصالحة تاريخية تضبط العلاقات الثنائية وتنظمها.

فكرة الاعتراض على إعادة أعمار مخيّم البارد بهدف منع إسكان 45 الفا من أهله تشكّل خلطة عجيبة من العنصرية والطائفية والمذهبية مضافة إلى غباء سياسي سيؤدي ترويجه إلى جرجرة لبنان فعلا إلى فوضى أمنية تعطل الدولة وتزعزع الكيان وتمنع الفكرة اللبنانية من النمو والتطوّر والانتشار.

«الفكرة اللبنانية» تعاني أصلا من التشويش وهي لا تزال عرضة للتأويل والتنازع والخلط الإيديولوجي بين «الطائفة» و»الكيان» و»المذهب» و»الدولة». وهذا يعني أنها تحتاج إلى فترة هدوء سياسي لإعادة التأسيس والبناء مجددا على معطيات واقعية افرزتها تجارب حروب أهلية وإقليمية على ساحة مكشوفة ومفتوحة للتجاذبات الدولية. فهل تشكل الانتخابات الرئاسية التي اقترب موعدها مناسبة لإخراج «الفكرة اللبنانية» من التموجات الطائفية والمذهبية والعنصرية أم أنّ القوى الموتورة ستواصل الشحن والحقن والتجييش باسم رفض «تهميش المسيحيين» ورفض «توطين الفلسطينيين» لحسابات ضيّقة الأفق وضعيفة في قراءة السياسة؟

المناخات العامّة غير مريحة وكلّها تدفع باتجاهات تعزيز نزعة تغليب «الطائفة» على «الدولة». وهذا الأمر في حال استمر يتطور سياسيا سيشكل في النهاية تلك الذريعة للقوى الدولية والإقليمية بإعادة النظر في خريطة الكيان وصيغته الحسّاسة. والنموذج العراقي ليس بعيدا وكذلك المثال الفلسطيني بين غزّة والضفة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1838 - الإثنين 17 سبتمبر 2007م الموافق 05 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً