المجتمع الشيعي جرّب نشاط الأحزاب السياسية وفشل فيها لأن مثل هذه الأحزاب اصطدمت مع سلطات الفقهاء. ففي العراق أسّس عدد من العلماء، من بينهم السيدمحمد باقر الصدر حزب الدعوة الإسلامية العام 1958... وكان الحزب يعتمد التنظيم الهرميّ كما كان حال الأحزاب الثورية التي برزت كظاهرة سياسية في مطلع القرن العشرين.
لكنّ حزب الدعوة عندما كبر حجمه واجه معضلة كبيرة مع فقهاء النجف الأشرف، وكان هناك ضغط شديد للتخلي عن فكرة الحزب إلى الدرجة التي اضطر فيها السيدمحمد باقر الصدر إلى الابتعاد تنظيميا عن الحزب لكي يصبح مقبولا بوصفه أحد فقهاء الحوزة. وحتى قبل أن يشرع حزب البعث الحاكم في العراق آنذاك في حملة لتصفية حزب الدعوة، كان التنظيم قد وصل إلى طريق مسدود لأنه لم يستطع «تشييع» مفهوم قيادة التنظيم الحديث للمجتمع، وهي الفكرة التي كانت قد طرحت وقبلت في الأوساط الإسلامية السنية، ولكنها لم تستقبل بالحماس ذاته في المجتمع الشيعي.
لقد حاول السيدمحمد باقر الصدر التوفيق بين القيادة الحزبية وقيادة الفقيه لكنه لم يستطع، وطرح لاحقا مفهوم «خلافة الإنسان» تحت «شهادة الأنبياء والأئمة والفقهاء»، ولكن تلك النظرية توقفت ولم ترَ تطبيقا عمليا لها، على رغم أنها كانت محاولة جيدة لمزج مفهومي «الشورى» مع «ولاية الفقيه».
بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية العام 1979، قام السيدمحمد حسين بهشتي مع السيدعلي الخامنئي والشيخ هاشمي رفسنجاني وآخرون بتأسيس الحزب الجمهوري الإسلامي، واستطاع هذا الحزب أن يتصدى لأعداء الثورة وأن يوفر ويدرب الكوادر التي احتاجت إليها الجمهورية الفتيّة آنذاك. إلا أنه وبعد سنوات قليلة من التأسيس واجه الحزب نفسه مشكلة حزب الدعوة... إذ لم يستطع التوفيق بين شرعية قيادة التنظيم وشرعية قيادة الفقيه واضطر إلى حل نفسه، وتوزع مؤسسوه وأصبحوا من دون تنظيم سياسي واندرجوا في إطار تنظيمات الدولة التي يقودها «الولي الفقيه». المشكلة واجهت الأحزاب الشيعية أينما كانت، وتعقدت كثيرا في كل بلد بحسب ظروفه السياسية.
قبل عدة أشهر، وجد المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق حلا «جزئيا» لمعضلته في ظل الظروف الحالية التي يمر بها العراق، إذ أعلن عن تغيير اسمه (من خلال إزالة كلمة الثورة)، وسرب إلى وكالات الأنباء أنه قرر اتخاذ «المرجع الأعلى» في النجف الأشرف مصدرا لشرعيته الدينية، وأنه فكّ ارتباطه بـ «ولاية الفقيه» التي تتخذ من إيران مركزا لها. هذه الخطوة ضمنت للمجلس الأعلى ممارسة دوره السياسي على أرض العراق من دون أن يتهم بأنه عميل لدولة أجنبية، ولكن أبعاد ذلك على أرض الواقع هي أن الشيعة أصبح لديهم خيار آخر غير «ولاية الفقيه» المرتبطة برسميات وسيادة دولة قومية داخل حدود إيران. وللحديث تتمة.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1838 - الإثنين 17 سبتمبر 2007م الموافق 05 رمضان 1428هـ