قبل اقتراب موعد انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية ارتفعت حدّة السجال السياسي بشأن المخرج الدستوري للأزمة. ولم يتوقف النقاش على القوى اللبنانية بل أمتد اقليميا وعربيا ودوليا إذ لم يتردد السفراء ورجال القانون في الدول الكبرى من إبداء نظريات وتعليقات تتصل بمسألة الانتخاب والصلاحيات الرئاسية وما يتطلبه الدستور من شروط لعقد جلسة الانتخاب.
هذه النقاشات تكشف بوضوح عن أنّ مسألة انتخاب رئيس لدولة لبنان سياسية في جوهرها حتى لو اعتمدت الدستور غطاء لها. وبما أنّ السياسة في بلاد الأرز ليست محلية فقط وإنما تخضع لتجاذبات إقليمية واستقطابات دولية أيضا فإن مشهد انتخاب الرئيس يعطي فكرة موجزة عن تلك الاصطفافات والمتغيرات في موازين القوى الجارية في محيط لبنان الجغرافي.
المسألة سياسية والدستور يشكّل قنوات تنفيس للاحتقان. ولكن الخلاف الدائر الآنَ بين القوى المعنية بالانتخابات يكشف عن احتمالات سلبية تشير إلى وجود عناصر تفجير للأزمة على غرار ماحصل في العام 2004. ففي ذاك العام قرر الرئيس اميل لحود مخالفة الدستور وتعديل مادة فيه تجيز له التمديد نصف ولاية. وجاء قرار لحود بناء على معطيات جوارية وإقليمية شجّعته على المضي في خطوته مهما يكن الثمن. وحصل التعديل وكان الثمن الذي دفعه لبنان غاليا وأعلى من طاقته على التحمّل. فالثمن كان صدور القرار 1559 الذي نصّ على مجموعة بنود خطيرة وضعت البلاد تحت سقف الرقابة الدولية. وحتى الآنَ لا تزال الدول الكبرى تطالب الحكومة اللبنانية بتطبيق ما تبقى من بنود في القرار المذكور.
هذه الحال الدستورية التي انتجت كارثة سياسية في العام 2004 يرجّح أنْ تتكرر في حال لم تتوافق الأطراف المعنية على اسم الرئيس والشروط الدستورية المطلوب تأمينها لانتخابه. وعدم التوافق يعني سياسيا انجراف البلد إلى فوضى أمنية وتجاذبات أهلية يمكن أنْ تؤدي إلى تعطيل الدولة (الضعيفة والمشلولة أصلا) وزعزعة الكيان وربما تفكيكه ميدانيا ليكون على صورة العراق ومثاله (النموذج الأميركي) أو كما هو حال السلطة الفلسطينية الآنَ (حكومتان في الضفة وغزّة).
المشكلة في القوى السياسية اللبنانية أنها تتصرّف من موقع القوي والمنتصر. فكلّ طرف يستند إلى معطيات وتحليلات دولية وإقليمية تبرر له التمسك بمواقفه وتملي عليه سياسة التحدّي والتصدّي وعدم التفريط بإنجازاته ونجاحاته. هذا الشعور بالقوة لا يكتفي بمجرى الوقائع بل يستخدم التوقعات والاحتمالات للتأكيد بأن مسار الأمور يتجّه لمصلحته. وعندما يرى كلّ فريق أنه صاحب الحق الدستوري وأنه يمتلك القرار وأنه في موقع الأقوى في إدارة اللعبة تصبح احتمالات احتواء الأزمة أضعف.
المسألة إذا دقيقة في الحسابات العامّة؛ لأنّ الأطراف لا تعتمد في القراءات السياسية على ماهو قائم الآنَ في معادلة القوة بل تعيد إنتاج الواقع بناء على سياسة الانتظار. فكلّ فريق ينتظر حصول «شيء ما» يعدّل الموازين ويدفع بالمعادلة باتجاه يرجّح قوته ضد الفريق الآخر.
سياسة «الانتظار» تلعب دورها في تعطيل إمكانات التفاهم. وهذا النوع من التفكير في قراءة المعادلات يؤسس «معسكرات» ترفض القبول بالأمر الواقع ويرفع من نسبة التعويل على توقعات تطمح نحو كسر الموازين في سياق دولي وإقليمي وجواري. مثلا الفريق الذي يرى أنّ الولايات المتحدة انهزمت في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان والصومال والسودان وغيرها يجد نفسه في موقع القوة وبالتالي لماذا يقدّم تنازلات في وقت بات على أمتار من إعلان الانتصار الشامل والكامل. وأيضا الفريق الذي يعوّل على توقعات ترى أنّ السياسة الدولية لا تزال قادرة على تعديل الواقع وكسر موازين القوى - يجد نفسه في مكان لا يسمح له بالتنازل في لحظة قد تشهد فيها المنطقة متغيرات دراماتيكية. وهذه القراءة «الانتظارية» التي تعتمد على التحليلات والتوقعات تفسّر الكثير من سياسات الاستنفار الجارية الآنَ بمناسبة اقتراب موعد جلسة انتخاب الرئيس اللبناني في 25 سبتمبر/ أيلول الجاري.
السياسة إذا هي الأساس ومنها يمكن رؤية الخلافات الدستورية وموضوع النصاب القانوني. فأصحاب نظرية «الثلثين» يتمسّكون بالشرط المذكور حتى لا يكتمل نصاب مجلس النواب بالغالبية النسبية ويتم انتخاب رئيس لا ينسجم مع التوجهات السياسية التي تتناسب مع رؤيتهم الاستراتيجية للمتغيرات الدولية والإقليمية. وأصحاب نظرية «نصف زائد واحد» يعتبرون أنّ تعطيل النصاب القانوني يؤدّي إلى فراغ دستوري يمنع عن الأكثرية النيابية حق اختيار رئيس يتناسب مع التعديلات التي ارتسمت ميدانيا بعد التجديد للرئيس لحود وتدويل القضايا اللبنانية الحساسة.
«الشر المستطير»
موضوع الرئاسة في لبنان يتجاوز المعادلة الدستورية وهو تقليديا كان من نتاج مساومات تعكس بحدود نسبية تلك التسويات الدولية والإقليمية في المنطقة. فالمنطقة في إطار الفضاءات الدولية العامّة كانت تختار الرئيس الأنسب لبلاد الأرز. وبما أنّ المنطقة الآنَ لا تزال في طور التشكل السياسي ولم تستقر القوى الدولية على تفاهمات ثابتة في شأن الملفات المطروحة والساخنة فمعنى ذلك أنّ لبنان سيبقى في حال من التوتر بانتظار أنْ تتوضّح معالم الصورة الإقليمية. الملف النووي الإيراني لا يزال في طور النقاش والتداول ولم تتوصّل القوى الدولية المعنية به إلى اتخاذ قرار بشأنه. الملف العراقي وما يعنيه من تداخلات إقليمية معطوفة على طوائف ومذاهب وفيدراليات مناطق واحتمالات انسحاب قوات الاحتلال أو تموضعها يحتاج إلى وقت لتتوضّح بعض الجوانب الفامضة منه. كذلك الملف الفلسطيني كان ولا يزال عرضة للتجاذبات الدولية والإقليمية ويرجّح أن تستمر أوراقه مكشوفة للتلاعب كما كانت عليه منذ سنوات وعقود. حتى «المؤتمر الدولي» الذي دعا الرئيس جورج بوش إلى عقده في الخريف المقبل يبدو أنه دخل في سياق مناوشات إقليمية لن تستقر قبل أن تتبلور زوايا المشهد ومدى استعداد حكومة ايهود أولمرت إلى التفاوض أو التنازل.
كلّ هذه الآليات المعطلة تنتظر إشارات دولية للتحرك. وبما أنّ عامل الوقت بدأ يحشر الأطراف ويضغط عليها فيرجّح أنْ تتعطل جلسة مجلس النواب في 25 سبتمبر وتتأجل إلى موعد آخر. فالمعطيات الميدانية تشير إلى صعوبات ومعوقات تمنع القوى اللبنانية تقديم تنازلات في لحظة «انتظارية» وفي وقت يرى كلّ فريق أنه «المنتصر» ويتوقع أنْ تصب المتغيرات المقبلة لمصلحته وترجّح كفته في موازين الربح والخسارة.
مرور موعد الجلسة الأولى من دون انعقادها أو بسبب عدم توافر نصاب «الثلثين» لا يعني بالضرورة أنّ لبنان سيدخل في اليوم التالي الفوضى الأمنية العارمة. فالدستور يفتح الباب إلى عقد جلسة ثانية وثالثة. ولكن المشكلة تبقى في السياسة. والسياسة في لبنان ليست محلية وإنما هي نتاج ترتيب وتركيب وتسويات «خارجية» وهذا ما يفسح الطريق أمام احتمال وجود خطة دولية إقليمية لاحتواء الأزمة وتداعياتها.
هذا دائما كان يحصل في العقود الماضية. والمشكلة الظاهرة الآنَ هي ألا يتفق «الخارج» على صوغ توجهات «الداخل». وهذا الأمر في حال حصوله يعني أنّ بلاد الأرز كما قال نبيه بري في طور «الشر المستطير» في الأيام العشرة الأخيرة من الموعد النهائي لانتخاب الرئيس البديل... وهو يتصادف في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1837 - الأحد 16 سبتمبر 2007م الموافق 04 رمضان 1428هـ