تمثل منهجية وتفكير السيناريوهات Scenario Thinking أحد أهم المنهجيات المتبعة حاليا في دراسات التخطيط المستقبلي، وتعتبر السيناريوهات الناتجة من هذه العملية من أكثر الأدوات فعالية في دفع وتحفيز عملية التغيير المطلوب سواء كانت لمؤسسة أو قضية أو لدولة أو لتكتل مكوّن من مجموعة دول. وتصف السيناريوهات الممرات أو الطرق البديلة نحو المستقبل، وتنتج مدى من النتائج المستقبلية المحتملة، بفرصها وتحدياتها، وذلك بناء على قوى محركة وسياسات داخلية نقوم نحن باتخاذها أو خارجية تفرض علينا. وهي بذلك تمكن صناع القرار من الحصول على رؤية واضحة حول ما سيأتي به الغد والتنبؤ بالآثار المحتملة التي قد تنتج عن القرارات التي يتخذونها اليوم، وتساعدهم في اتخاذ القرارات المطلوبة للمستقبل المأمول (انظر «تفكير السيناريوهات المستقبلية: الوضع الراهن ليس خيارا مطروحا»، صحيفة الوسط، العدد 900، 22 فبراير/شباط 2005).
ولقد عقد في الفترة من 18 -20 من مايو/ أيار الماضي من العام الجاري في الأردن المنتدى الاقتصادي العالمي حول الشرق الأوسط (دافوس)، ولعل من أهم وأبرز المواضيع/ الجلسات التي عقدت خلاله هي «مستقبل دبي»، و«مستقبل مجلس التعاون الخليجي والاستقرار في الشرق الأوسط الكبير... من يأخذ المبادرة»، و«الاتجاه نحو التعددية»، و«قصص نجاح في التنمية»، و«القيادة والتنظيم في العالم العربي»، و«هل يخدع العالم العربي شبابه»، و«إيران والمنطقة»، و«إيجاد مصادر جديدة للطاقة في الشرق الأوسط»، و«دروس من الإرث العربي»، وغيرها من الموضوعات المهمة لدول مجلس التعاون والعالم العربي ككل.
وكُشف خلال المنتدى النقاب عن أحدث دراسة للسيناريوهات المحتملة لدول مجلس التعاون الخليجي خلال السنوات العشرين المقبلة، بعنوان «دول مجلس التعاون والعالم: السيناريوهات حتى 2025»، تم إعدادها من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي بالتعاون مع مجلس التنمية الاقتصادية في البحرين، وجهاز الشئون التنفيذية في أبوظبي، وشركة العليان المالية في المملكة العربية السعودية. وبحسب عضو منظمة القيادات العالمية ومدير المشروعات في المنتدى الاقتصادي العالمي، نيكولاس ديفيز، فإنّ المبرر لبناء هذه السيناريوهات هو «أنّ المنطقة ستبقى خلال العشرين سنة المقبلة محط أنظار العالم، ليس بسبب مسألة أمن الطاقة، بل أيضا بسبب التطورات المتسارعة التي تشهدها أسواق المال والمدن المبتكرة، ويجب على العالم أنْ يضع تصورات للعوامل التي يمكن أنْ تدفع المنطقة إلى خارج المسار الصحيح، ورصد الفرص المتاحة لمساعدة دول مجلس التعاون الخليجي ومنطقة الشرق الأوسط عموما، على تحقيق نجاحات تتجاوز التوقعات العالمية».
وتحتوي الدراسة على ثلاثة سيناريوهات محتملة للتطورات في منطقة مجلس التعاون الخليجي، تم تسميتها، للدلالة على مضمونها، بسيناريوهات «الواحة» و«العاصفة الرملية»، و«الخليج الخصيب». ولقد بنيت هذه السيناريوهات الثلاثة من خلال دراسة بحثية استغرقت 18 شهرا بمشاركة أكثر من 300 خبير من منطقة الخليج وخارجها. وطرح فريق الدراسة، الذي قاده المنتدى الاقتصادي العالمي، على المشاركين سؤالين رئيسين حول مستقبل دول مجلس التعاون الخليجي، هما:
- هل سيكون قادة القطاعين العام والخاص في دول مجلس التعاون الخليجي قادرين على إجراء الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الضرورية، وفرض سيادة القانون بنجاح في كلا القطاعين؟
- كيف ستتمكن دول مجلس التعاون من الحفاظ على الاستقرار والأمن الداخليين في ظل الوضع الإقليمي المعقد والغامض؟
ويرى سيناريو «الواحة» إنّ الاستقرار الإقليمي سيظل يشكل تحديا بالنسبة إلى دول مجلس التعاون، ولكنها ستتمكن من تحقيق إصلاحات مؤسسية كبيرة، كما ستطور دول المنطقة علاقات تعاون قوية فيما بينها وستعمل معا لتنسيق السياسات الاقتصادية والدبلوماسية من خلال إدارة حكم تكنوقراطية وسوق داخلية أكثر قوة. أما سيناريو «العاصفة الرملية» فيرى بأن حالة عدم الاستقرار في المنطقة هي العامل الرئيسي الذي سيقوّض قدرة دول مجلس التعاون على إجراء الإصلاحات المؤسسية الضرورية بطريقة فعالة. ويرى هذا السيناريو عددا من العوامل المركبة التي تجعل المنطقة المحيطة مضطربة إلى حد كبير، ومنها النزاع الدائر بين الولايات المتحدة وإيران، واتساع دائرة العنف إلى خارج العراق. بينما يرى سيناريو «الخليج الخصيب» بروز دول المجلس كمراكز للابتكار وتطوير الكوادر البشرية في بيئة عالمية تتسم بالطلب القوي على الطاقة وتنامي العولمة. وسيتيح الاستقرار الإقليمي لدول مجلس التعاون الخليجي الفرصة لتركيز جهودها على تطوير كوادرها البشرية على المستويات كافة، والاستثمار بقوة في التعليم، ومواصلة مسيرة الإصلاح السياسي والمؤسسي بحذر، من أجل دعم مجتمعاتها واقتصادياتها المتنامية.
وفي دراسة السيناريوهات هذه تبرز قضيتان أو موضوعان رئيسيان على درجة عالية من الأهمية في تأثيرهما على مستقبل دول المجلس ومسار كلّ من الثلاثة سيناريوهات الذي يمكن أنْ تمضي فيه هذه الدول. القضية الأولى هي التعليم والابتكارEducation and Innovation، إذ ترى الدراسة أنه وبرغم من حجم احتياطي النفط والغاز الطبيعي التي تمتلكه هذه الدول، إلا أنها ستواجه في النهاية تحدّي نضوب هذه الموارد، كما أنّ هذه الموارد ليست من المصادر التي يعوّل عليها بموثوقية دائمة لتحقيق الدخل والثروة لها. وقد بينت التجارب السابقة بأن دول المجلس قد واجهت أكثر من مرة عجوزات مالية في موازناتها وتزايد المديونية الحكومية بسبب انخفاض أسعار الطاقة العالمية. وفي محاولتها لتنويع مصادر الدخل لتخفيف تأثيرات تقلب أسعار الطاقة عليها، فإنّ هذه الدول تواجه مشكلة إضافية كبرى تتمثل في التدني العام للمهارات الحالية للقوى العاملة الوطنية فيها مقارنة بالمقاييس العالمية، بالإضافة إلى تدني مستويات البحث والتطوير والابتكار فيها وعدم الاهتمام بهذا الجانب في سياساتها التنموية، ما يعيق عملية التنمية في هذه الدول، ويفاقم من مشكلة استيراد كلا من العمالة الأجنبية والتكنولوجيا. ولذا، فإن الطريقة التي ستتعامل بها دول المجلس في مجال السياسات التعليمية وتجذير البحث العلمي في المجتمع سيكونان محددين رئيسيين لقدرة المنطقة على النمو كاقتصاديات تعتمد على الابتكار ولا تعتمد بشكل كلي على الموارد الطبيعية.
وقد تكوّن هذه القضية المحورية بالإضافة إلى ما تم تداوله في المنتدى عن أهمية التعليم والتدريب هي السبب في قرار نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء في دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، خلال انعقاد المنتدى تأسيس مؤسسة «محمد بن راشد آل مكتوم» التي ستركز على التنمية البشرية، ورصده لصندوق بقيمة عشرة مليارات دولار لتمويل مشروعات هذه المؤسسة لتشجيع ودعم التعليم في الدول العربية.
أما القضية المحورية الثانية التي تذكرها الدراسة فهي أسلوب القيادة والحاكمية Leadership and Governance. وكما هو معروف فإنّ دول المجلس تحكمها حاليا أنظمة حكم قبلية - عائلية منظمة تحتكر بشكل مباشر أو غير مباشر عملية اتخاذ القرار في هذه الدول، مع وجود درجات متفاوتة من النماذج التنفيذية والتشريعية والقضائية. وترى الدراسة بأن أسلوب القيادة والحاكمية سيلعبان دورا مهما في تحديد المسار الذي ستسلكه هذه الدول في العشرين عاما المقبلة في التعامل مع القضايا التي ستواجهها من حيث إجراء الإصلاحات السياسية والإدارية وفرض سيادة القانون والعدالة الاجتماعية والحفاظ على الأمن والاستقرار الداخليين ومواجهة التوترات والتهديدات الإقليمية. وتشير الدراسة إلى أنه برغم من أن هذه الدول قد قامت بالتحرك إلى الأمام في هذا المجال من خلال القيام بإصلاحات سياسية وإدارية لتحسين كفاءة وشفافية الأنظمة القائمة حاليا، إلا أنّ الاستراتيجيات المتبعة في ذلك تختلف من دولة لأخرى ومعدل التغيير والإصلاحات متفاوت من دولة لأخرى. وترى الدراسة بأن أسلوب القيادة والحكم سيلعبان دورا حيويا في إدارة الاستقرار الداخلي وإجراء الإصلاحات المطلوبة.
لقد وفرت دراسة السيناريوهات هذه رؤية واقعية للمجتمعات الخليجية للعقدين القادمين، وما هو مطلوب من قياداتها وصانعي السياسات فيها القيام به للوصول إلى المستقبل المأمول، والتي تم حصرها أساسا، كما ذكر أعلاه، في الاستثمار في التعليم وبناء القدرات البشرية الوطنية والبحث والتطوير، والقيادة والحكم الصالحين. إلا أنه في تحديد القضايا الرئيسة المحورية التي ستحدد مسار المستقبل تم إغفال قضية التعاون والتكامل بين دول المجلس (وإن كانت موجودة في استعراض السيناريوهات) كأحد المواضيع الرئيسة والقوى الدافعة في تحديد هذا المسار، وخصوصا أنّ هذا الموضوع يعتبر حاليا من المتغيرات في المنطقة، وتشوبه درجات عالية من عدم اليقين والتذبذب بحسب المؤشرات الحالية من «حالات التغريد خارج السرب والانفراد بالقرار»، بل نجده في تراجع مستمر ومخجل نوعا ما في بعض المجالات الحيوية، وخصوصا في مجال التعليم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وباستثناء المملكة العربية السعودية فإن الإمكانيات البشرية والبحثية لهذه الدول منفردة في هذه المجالات الحيوية متواضعة جدا، ولا يوجد في المنطقة إلى الآن مشروع بحث وتطوير خليجي مشترك في المواضيع الحيوية التي تواجهها هذه الدول، مثل الطاقة أو تحلية المياه. ولذا، فأن تطور مستوى التعاون والتكامل الخليجي ومعدله وقدرته على الصمود في وجه التجاذبات الاقتصادية والسياسية التي تتعرض لها دول المنطقة باستمرار سيكون له أثر كبير في تحديد مستقبل المنطقة وطريقة التعامل مع العالم الخارجي، وكان من الممكن ان يكون احد السيناريوهات بحد ذاته. وبإغفال هذا المتغير المهم في بناء السيناريوهات، تم تفويت الفرصة في توفير الرسالة المطلوب إيصالها إلى قادة دول المجلس وصنّاع السياسات فيها حول تأثير التعاون والتكامل بين دول المجلس على مستقبل المنطقة.
أما الموضوع الآخر الذي لم تتطرق إليه الدراسة فهو الجانب البيئي والآثار المترتبة على صحة الإنسان والبيئة في كل سيناريو من السيناريوهات الثلاث المطروحة، فلكي تصل دول المجلس إلى التنمية المستدامة المأمولة، فإنّ عليها أن توازن بين التنمية الاجتماعية - الاقتصادية من جانب والحفاظ على البيئة من جانب آخر. ونجد أنّ الدراسة قد ركزت على الأداء الاقتصادي بشكل كبير وقدّمت الكثير من المؤشرات والمتغيرات الاقتصادية (مثل النمو في الناتج القومي الإجمالي وحصة الفرد منه، والطلب على الطاقة والدول منه، ونمو القطاعات غير النفطية، العمالة الأجنبية ونسبة البطالة، وغيرها)، وكذلك تأثيرات النمو السكاني على بعض هذه المؤشرات، ولم تأتِ على ذكر تطور المؤشرات البيئية للقضايا البيئية الملحة العديدة في المنطقة في ظل هذه السيناريوهات، وتأثيرها السلبي المحتمل على الأداء الاقتصادي، مثل تكلفة التلوث البيئي واستنزاف وخسارة الأصول والموارد الطبيعية والبيئية على الناتج الإجمالي المحلي. وقد يكون عدم التطرّق إلى هذا الجانب في الدراسة مفهوما ومتوقعا نظرا لطبيعة السيناريوهات والهدف منها، إلا أنه وتحت الظروف الجافة والبيئة الهشة التي تتسم بها المنطقة، فإنّ الأداء الاقتصادي المطلوب سيؤثر حتما على البيئة وقد يتأثر بدوره بتدهورها على المدى البعيد.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1836 - السبت 15 سبتمبر 2007م الموافق 03 رمضان 1428هـ