أثار خطاب الرئيس جورج بوش تعليقا على النتائج والتوصيات التي توصل إليها «تقرير سبتمبر» بشأن احتلال العراق ردود فعل متفاوتة تراوحت بين الغضب والقبول المشروط والموافقة المبدئية على الخلاصات العامة.
قيادة الحزب الديمقراطي في الكونغرس وخارجه تعاملت بسلبية مع خطاب بوش و«تقرير سبتمبر» واعتبرتهما بمثابة محاولة للتهرب من المسئولية والسعي إلى رمي كرة العراق الملتهبة في ملعب الرئيس الأميركي المقبل. المترشحون للرئاسة من جانب الحزب المنافس توافقوا على أن خطاب بوش شكل خطوة استفزازية لأنه استغل ذاك النجاح الجزئي الذي حققته الخطة الأمنية في بغداد ومحافظة الأنبار (مركز المقاومة) ليرسم صورة وردية عن واقع بائس يشي باحتمالات خطيرة في المستقبل. وذهبت رئيسة الكونغرس الديمقراطية نانسي بيلوسي إلى حد اتهام بوش أنه يخطط للإبقاء على القوات الأميركية مدة عشر سنوات، أي أنه يريد توريط واشنطن في حرب كان يجب ألا تقوم في معركة لا فائدة منها سوى المزيد من الخسائر المادية والضحايا البشرية والقتلى من جيش الولايات المتحدة.
على المقلب الآخر تعاطت قيادة الحزب الجمهوري مع الخطاب بشيء من الإيجابية والمرونة معتبرة أن الخطة الأمنية لم تنجح بالكامل ولكنها لم تفشل وهي تتطلب المزيد من الوقت لتثمر ميدانيا وسياسيا. كذلك اتجه المترشحون من حزب الرئيس إلى تثمين تلك «الإنجازات» و«النجاحات» وحذروا من التفريط بها من خلال الضغط على واشنطن للإسراع بسحب جيش الولايات المتحدة قبل استكمال «المهمة». حتى نائب الرئيس ديك تشيني سارع إلى تأييد رئيسه وحثه على عدم التجاوب مع دعوات الانسحاب العشوائي بذريعة أن الخروج السريع سيؤدي إلى فوضى وإنشاء فراغات أمنية قد تشكل تلك الملاذات الآمنة لتأسيس بؤر تمرد تجذب إلى صفوفها المجندين من العراق والمنطقة لتصعيد عمليات الضرب ضد القواعد والمصالح الأميركية.
«تقرير سبتمبر» الذي طال انتظاره أعطى مفعوله المضاد لكل فريق أميركي. فالديمقراطي الذي يعارض الحرب وجد فيه سياسة ماكرة تريد تغطية الفشل الاستراتيجي من خلال التركيز على نجاحات جزئية ومؤقتة. والجمهوري الذي انجرف نحو الحرب يريد التخفيف من الضغط الداخلي انطلاقا من الاستمرار في خداع الرأي العام (الناخب ودافع الضرائب) من خلال إثارة المخاوف المحتملة في حال قررت واشنطن الانسحاب قبل إنجاز المهمة.
«إنجاز المهمة» يعتبر رافعة خطاب بوش في الفترة المقبلة. وهذه الرافعة تحولت إلى شعار هلامي يطلقه الرئيس الأميركي عندما يجد نفسه غير قادر على الدفاع عن سياسته. ولكن بوش لم يوضح حتى الآن ما هي طبيعة تلك «المهمة» التي تتطلب منه الإبقاء على قوات الاحتلال لإنجازها؟ فهل المهمة تأسيس دولة «ديمقراطية» في بلاد الرافدين؟ وهل المهمة تقسيم العراق إلى دويلات طائفية ومذهبية (فيدراليات مناطق وكانتونات)؟ وهل المهمة هي اقتسام ثروات العراق (النفط) وتوزيعها على المناطق تحت إدارة الاحتلال وإشرافه؟ وهل المهمة تشطير بلاد الرافدين إلى مراكز قوى متعارضة ومتصادمة ومتنافسة على الغنيمة تعطي ذريعة للاحتلال للبقاء ليقوم بدور الناظم لعمليات الاقتتال الأهلي؟ وهل المهمة هي تأسيس فراغات أمنية تستدرج القوى الإقليمية (دول الجوار) إلى الانخراط في لعبة الطوائف والمذاهب بهدف تحسين شروط تعامله مع بعضها بعضا؟ وهل المهمة هي إعادة ترسيم خريطة «الشرق الأوسط» وفق تصورات طائفية ومذهبية تؤدي لاحقا إلى تأسيس وقائع ميدانية على الأرض وتبرر إنشاء جيوب سياسية لهذه الدولة الإقليمية أو تلك بالتفاهم أو بالتضامن مع إدارة واشنطن؟
هناك الكثير من «المهمات» التي يمكن طرح أوراقها على الطاولة وهي في مجموعها العام تؤكد على أن العراق تغيرت خريطته الديموغرافية (السكانية) وبالتالي فإن مستقبل بلاد الرافدين لن يعود كما كان إلى هويته العربية/ الإسلامية السابقة. فالواقع الذي أنتجه الاحتلال من طريق استخدام القوة من الخارج وتحطيم البنى التحتية وتقويض الدولة وتفكيك العلاقات الأهلية وبعثرتها وتشجيع القوى المتنافسة على اعتماد سياسة الفرز المذهبي والتطهير الطائفي في المناطق انتهى إلى إعادة تشكيل هيئات أقوامية متنافرة وغير قابلة للتعايش.
هذا الواقع الكارثي اعتبره بوش في خطابه تعليقا على «تقرير سبتمبر» من إنجازات الاحتلال وهو يصر على إعطاء قواته المزيد من الوقت لاستكمال «المهمة». وبما أن الواقع يفرض شروطه السياسية لجأ بوش إلى تعداد تلك «النجاحات» التي حققتها الخطة الأمنية منذ اعتمادها في يناير/ كانون الثاني الماضي.
الاحتلال أو الموت
«النجاحات» هي الكذبة الثانية التي اعتمدها بوش في خطابه لتغطية الفشل في استراتيجيته العامة. ومفردة «النجاحات» تحولت إلى غلاف آخر لفكرة «إنجاز المهمة». فما هي تلك «النجاحات» التي حققها الاحتلال في الأشهر التسعة الماضية حتى يدّعي أن خطته نجحت وتحتاج إلى وقت حتى تنجز المهمة؟ بوش سرد في خطابه بعض تفصيلات يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة. فهو مثلا يشير إلى تراجع العنف الطائفي وتحسن الوضع الأمني في مناطق كانت تعتبر سابقا مركزا للمقاومة (غرب بغداد ومحافظة الأنبار) والتقدم في بناء علاقات ميدانية مع «عشائر سنية» والتعاون معها لمحاربة تنظيم «القاعدة» معتبرا هذه النقطة خطوة في سياق «نجاح» ينتظر حصوله تمهيدا لإنجاز «المهمة».
هذا السرد المبسط يعتبر قمة في النفاق السياسي إذا نظر إليه من زاوية مضادة. تراجع العنف الطائفي (التطهير المذهبي) لا يعود سببه إلى نجاح «الخطة الأمنية» بقدر ما هو نتاج انعدام المبررات الموضوعية للقتل على الهوية. فالتراجع جزئي ونسبي أساسا وحصل خلال الشهور الماضية لأن الأقليات السنية في المناطق الشيعية قضي عليها أو رحلت أو اضطرت للهرب إلى الداخل العراقي أو خارج العراق. وكذلك في المقابل اضطرت الأقليات الشيعية في المناطق السنية إلى اللجوء إلى مناطق آمنة هربا من المذابح والاعتداءات والمجازر التي ارتكبت ضدها. التراجع إذا في الاقتتال المذهبي والقتل على الهوية لم يحصل بسبب نجاح الخطة الأمنية وإنما نتيجة الاحتلال الذي غذى وشجع على الفرز الطائفي وصولا إلى «تنظيف» المناطق من التنوع والتعدد والألوان. النجاح إذا ليس سببه ضبط الأمن بقدر ما يعود إلى نجاح الفرز والتطهير والاقتلاع والتنظيف الذي أشرف الاحتلال على تنظيمه منذ أربع سنوات.
أما عودة الهدوء النسبي إلى الأنبار لا يعود الفضل فيه إلى خطة بوش الأمنية بل إلى تلك السياسة المتطرفة والعنيفة التي اعتمدتها التنظيمات المسلحة (وتحديدا جيوب القاعدة وأعوانها) ضد عشائر المحافظة. فالتجاوزات والتحرشات والاستفزازات والتدخلات في الحياة الخاصة ولدت قوة مضادة ضد منظومة من الأفكار لا تناسب العشائر وعاداتها وتقاليدها. وبسبب هذه المشاعر المتنافرة التي ولدتها أساليب غير مستحبة مضافا إليها مخاوف دقيقة من تعامل حكومة نوري المالكي مع الاحتلال للقضاء عليها معطوفة على حساسيات من إيران ودورها الإقليمي في العراق ساهمت في مجموعها في تعديل رؤية العشائر والانتقال من ضفة المقاومة إلى ضفة التعامل مع الاحتلال وعلى سوية واحدة مع الطوائف والمذاهب والأقوام الأخرى التي استفادت من واشنطن لتحسين مواقعها وتطوير شروط تفاهمها مع الغزو الأميركي. التقدم في بناء علاقات جيدة مع «عشائر السنة» لا يعود سببه إلى نمو النضج السياسي في الأنبار بقدر ما هو نتاج الخوف وتخويف أهالي المحافظة من التطهير المذهبي والطائفي أو الموت السريع في حال استمرت المقاومة ضد الاحتلال.
خطاب بوش تعليقا على خلاصات «تقرير سبتمبر» بني أساسا على تلفيق «نجاحات» لتبرير سياسة التسويف والمماطلة وتأجيل الانسحاب إلى فترة تتعدى ولايته الثانية في نهاية العام 2008. فالنجاحات كاذبة إذا نظر إليها من زاوية واقعية مضادة. فما حصل في العراق كارثة سياسية وإنسانية وأخلاقية في مختلف المعايير الدولية التي تنص عليها المواثيق والمعاهدات المصدق عليها في الأمم المتحدة وشرائع حقوق الإنسان.
العراق الآن في حال يرثى لها بناء على التقارير والاستطلاعات الموضوعية والمحايدة. وما ارتكبته إدارة بوش مما تدعيه من «نجاحات» و«إنجازات» و«مهمات» يفوق التصور في سرعته النسبية. فهناك تقديرات تقول إن ضحايا بلاد الرافدين بلغت المليون من المدنيين، بينما زاد عدد المهجرين إلى خارج العراق عن الملايين الثلاثة. أما في داخل العراق فهناك سجلات تكشف عن تطهير وانتقال من محل إقامة إلى آخر بحثا عن ملاذ طائفي أو مذهبي آمن بلغ تعداده نحو ثمانية ملايين مهجر في وطن لم تعد له قائمة ويرجح أن تتغير خريطته وهويته نهائيا في حال تسنى لإدارة بوش استكمال تحقيق ما وصفه في خطابه «إنجاز المهمة».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1836 - السبت 15 سبتمبر 2007م الموافق 03 رمضان 1428هـ